كسعيدِ حظٍ لم يقتلوه

18 مارس 2016
+ الخط -
مثل باقٍ لا يطيب له البقاء، ولم يتح له أحد فرصة الهرب، أقطن مع آلافٍ من المحاصرين أمثالي في سجنٍ كبير، مدينةٌ صدعتها الأحزانُ والتعب، في بلدٍ لم يعطني أكثر من هويةٍ سهلةِ الكسر من البلاستيك، ثم تخلى عني وأنكر نسبي له بعد حين.
**
نازح، وهذه صفة وميزة أخرى أملكها، كثيرون أيضاً يتصفون بها، جميعنا لم ننج من ألعاب الرصاص والقذائف الصبيانية، بين فريقين يتقاتلان لأجلنا، ويقتلان منا لأجلنا أيضاً.
**
أمي تشاجر أبي ليل نهار، كيف لم يخبرها قبل أن يفكرا بإنجابي، أن الأخَ زائد الأخ يعطي خدمةً إلزاميةً للاثنين، كذلك صارت تعزو بكائي اللامنقطع في يوم الشؤم، يوم ولادتي، إلا أنني كنت قد أدركت، مبكراً، أن تأجيلاً سأحمله سيبلغ أجله مبكراً.
**
أبي الضابط، المتقاعد من تسعينيات القرن الماضي، لا يتركُ فرصةً تتاحُ له حتى يوبخني، لأن الجبان وحده من لا يضحي لأجل هذا الوطن المبارك.
**
كثيرون من أصدقائي يشاركون بالحرب، منهم من كان مرغماً، ومنهم من يخوضها بإرادته الحرة، معظمهم قتلوا، ولهذا كنت مضطراً، في أحيان كثيرة، أن أناقض نفسي، وأقول لأمِّ صديقٍ مقتول: الرحمة له فهو شهيد، وأقول معزياً لأم آخر قتل على الجبهة المقابلة للأول العبارة نفسها.
**
حملاتُ الدهم المنتشرة، كذلك الحواجزالمتنقلة التي تفتش عن التأجيلات العسكرية، كلها أمور أسمع عنها عشرات المرات يومياً. أنا خائف جداً.. لا أكذب إن قلت إني أرتجفُ، كلما خطت قدم بخفة على درج البناء، وإنّي أودعُ كل شيء بقربي، إذا طرق باب البيت بقوة.
**
(اعتدتَ الجلوس في البيت كما النسوة)، هذا ما تقوله أختي، كلما أزعجتها، فأتخذ من كلامها مبرراً لاستراق السمع إلى أحاديثِ ضيوفنا من النساء..الفعل الذي منحني جرعات مُرّةٍ ومتفاوتةٍ من الصبر والأمل.
قالت إحداهن، زيارة، موجهة الحديث إلى أمي: أحسدك.. ما يزال حياً.
وقالت أخرى باكية: أحسدك..لم تأخذه العفاريت الزرق مثل ابني.
أيام طويلة وأحاديث كثيرة، دفعتني لأشعر أن المدينة خلت من الشبان، وأن النسوة قد استلمن زمام الأمور.
**
كل ليلة، وقبل أن أطفئ النور، وأخلد إلى النوم، تحت السرير(المخبّأ)، أكتب في مقدمة وصيةٍ أجددها يومياً متحسباً: كسعيدِ حظٍ لم يقتلوه أو يأخذوه بعد، كناجٍ.. ربما يكون وحيداً.. أودعكم.
avata
avata
مصطفى كليب (سورية)
مصطفى كليب (سورية)