كتابة في زمن اليأس اللبناني: لا شيء ينفع

كتابة في زمن اليأس اللبناني: لا شيء ينفع

07 سبتمبر 2020
بيروت: الكتابة عاجزة فالصورة أقسى (فرانس برس/ Getty)
+ الخط -

 

لا الكتابة تنفع، ولا الصراخ أو الغضب أو الشتائم. هذا بلدٌ ميّت، ودفنه غير كافٍ لإنهاء قهرٍ يتجذّر في أصل الحكاية. العَفن أخطر من ذاك الذي يعتري الدنمارك، والموت لن يُنقِذ روحاً تغلي، وجسداً يحتاج إلى متنفَّس قبل أنْ يرحل. هذا بلدٌ منذور للجرائم، وصانعو الجرائم ومرتكبوها يتسلّون باحتضارهم الذي يقتلنا. هذه مدينة معقودةٌ على نهايات غير منتهية، وعلى بدايات مشوّهة، وعلى حياةٍ مفعمةٍ بدموعٍ تروي فصول التاريخ البشريّ بألسنة صامتة، وبأفئدة يُلوّعها الحنين إلى مَنفذٍ وإنْ يكن أخيراً. هذه شوارع تحيا بحروبٍ صغيرة، وتنتعش باقتصادٍ مُزوَّر، وتستمرّ بتحطيمٍ وعزلات، وتثْبُتُ بليالٍ مجتزأة لسهراتٍ مُتْعِبة. هذه كتابة معطوبة لن يكون لها أيّ معنى، وإذْ يحتاج إليها بعضنا، فلتمضيةِ وقتٍ مُعطَّل أمام شاشة ملعونة، تسرد مقتطفات يومية من خرابٍ لبناني مُستدام.

لا الكتابة تنفع، ولا أيّ شيء آخر، طالما أنّ كلَّ انقلابٍ مطلوبٍ غائبٌ، وكلَّ تمرّدٍ مفروضٍ صُنعه لعنةٌ، وكلَّ انتفاضةٍ مرتجاةٍ ناقصةٌ، وكلَّ ثورةٍ مشتهاةٍ مؤجّلةٌ أو مُغيَّبةٌ أو مفقودة، وكلَّ صمتٍ منبوذٍ كثيفٌ وحاضرٌ. لا الكتابة تنفع، ولا عصيان ضروري، فهذا مخيف لمن يُصنَع ضدهم فيقمعوه مسبقاً، ولصانعيه أيضاً فيرتعدون منه، وهذه كارثة، رغم حاجةٍ إليه لقولِ شيءٍ مُفيد من ذاكرةِ غدٍ.

إذْ ما الذي يُضيفه نصّ يقرأ فيلماً، بينما روح تحت أنقاضٍ تلفظ أروع مفردات عيشٍ رغم القهر، وكلّ روح أخرى تعاني سقوطَ أنقاضِ دولةٍ وبلدٍ وناسِ دولةٍ وبلدٍ، فتجثمُ الأنقاضُ والدولةُ المنهارة والناسُ الراضخون على كلّ روحٍ؟ ما الذي يُثيره نقدٌ في نفوس مُهتمّين، إنْ ينوجد مهتمّون أصلاً، والنقد يريد "تفكيكاً" لنصٍّ أو حكاية أو انفعال أو صورة أو توليفٍ أو قول أو حركة أو أداء، والتفكيك حاصلٌ في مفاصل بلدٍ، وفي مسام أناسٍ يريدون موتاً هانئاً في نظامٍ يتفنّن في إطالة عمر الاحتضار، له وللناس أجمعين؟ ما الذي يقوله كلامٌ في سينما عاجزة، أصلاً، عن اللحاق بمعجزة طغمةٍ تُتقن ابتكار كلّ فنون القتل والتغييب والشرذمة والتهجير والقمع، وتصنع من النهب والتزوير بطولةً، لحظة انقراض كلّ بطولة؟

 

 

أهذا يأسٌ أم واقع؟ أم أنّه واقعُ يأسٍ، أو يأسٌ من واقع؟

تستحيل الإجابة، رغم بساطتها وواقعيّتها وشقاء العارف بها. والعارفُ بها يحاول كتابة نصٍّ فالمهنة واجبٌ، وبعض المهنة كامنٌ في قراءة واقعٍ وإنْ يدعو إلى اليأس، وفي مقاربة اليأس وإنْ يكن اليأس واقعاً. التلاعب بالكلام يبدو ترفاً، لحظة خروج الوحش بإذنٍ من طغمةٍ، تريد للوحش تنفّساً طبيعياً يقتات من هواء الناس، وينمو من أنفاس الناس، ويُحاسِب أرواح الناس، وبعض الأرواح ميتة وهذا يليق بالوحش، لكنّ أرواحاً أخرى، وإنْ تكن قليلة، تريد خروجاً من أنقاضٍ، والأنقاض تملأ بلداً، وتُقيم في ناس بلدٍ ومعهم، ويصنعها متسلّطون على بلدٍ وأناسٍ، ويُباركها راضخون لتسلّطِ مُتسلّطين على بلدٍ وأناس، والراضخون أزلام متسلّطين يتفوّقون على أسيادهم بالتسلّط، غالباً. والقلّة، التي تواجِه هذا كلّه وحيدة ومعزولة، يُحاربها متسلّطون وراضخون لمتسلّطين، وأشكال المحاربة كثيرة ككثرة المتسلّطين والراضخين لهم، وككثرة داعمي المُتسلّطين، القادمين من هنا وهناك، وما من أحدٍ ينتبه إلى القلّة، فهؤلاء يريدون كثرةً لتثبيت سُلطة، لا قلّة تنغِّص هناءَ سُلطةٍ وديمومة تسلّطٍ.

يُقال إنّ يأساً يولِّد رغبةً في كتابة. يُقال إنّ واقعاً، إنْ يكن مُزرياً أو لا، يحثّ على كتابة. يُقال ويُقال ويُقال. لكنّ الواقع، إنْ يكن مُزرياً أو لا، أو إنْ يكن دافعاً إلى يأسٍ أو إلى نقيضه أو إلى لا شيء، غير قادرٍ على تحريضٍ دائمٍ على كتابة. أقوالٌ مأثورة في زمنٍ لبنانيّ، يصعب وصفه وتصنيفه، إذْ لا أوصاف تليق به، باستثناء تلك التي يفرضها أصحاب سُلطة ومن يستميتُ من أجلهم، ويفرضها من يعطف على سُلطةٍ ويُدافع عنها، والفرض مُنْزل على القلّة أولاً، ثمّ على ناسِ سُلطةٍ، وفناني سُلطةٍ، وإعلاميي سُلطةٍ، ومُريدي سُلطةٍ، وخانعين لسُلطةٍ، وأبواقُ السُلطة كثيرة. أقوالٌ مأثورة في حالةٍ لبنانية، يعجز فقهاء اللغة عن اختراع مفردات تُعبِّر عنها. أمْ أنّهم ينفضّون عن مهمّة كهذه، لشدّة تفرّد الحالة اللبنانية في ارتكاباتها المتفوّقة على كلّ خيال، وعلى كلّ واقع أيضاً

القلّة وحدها من تصنع أفعالاً تليق ببلدٍ وإنْ يكن البلدُ وهماً، وبناسِ بلدٍ وإنْ يكن انتماؤهم إلى بلدٍ وهماً. القلّة تصنع أفعالاً، لكنْ من دون كلامٍ، وهذا أفضل. والأفعالُ مُطالَبةٌ باستمراريتها، وبتحوّلها إلى نهجِ حياةٍ، فهذا أهمّ وأكثر إلحاحاً، لأنها أداة مواجهة للوحش المتفلّت هنا وهناك. أفعالٌ تعكس شيئاً من حيوية اشتغال، ومن حماسة مشتغلين، ومن غضبهم وقلقهم وأوجاعهم، وهذا آنيّ مع أنّه يجب أنْ يكون مساراً لإنقاذٍ فعليّ، ولخلاصٍ مُنتظَر.

رغم هذا، فالكتابة الأجمل عن قلّةٍ، تعمل وتفعل وإنْ بشكلٍ آنيّ، تكمن في عدم الكتابة عنها، كي يبقى لاشتغالاتها ـ وإنْ تكن اشتغالاتها مُتواضعة وبسيطة، ولهذا ربما هي اشتغالات جميلة ـ كلّ المعاني وكلّ البهاء وكلّ الغضب وكلّ الحيوية وكلّ الحماسة، على أنْ يُترجَم هذا في سياقٍ حياتيّ لتغيير جذريّ، إنْ أمكن ذلك.

المساهمون