كتابان يُقرآن بالتوازي

كتابان يُقرآن بالتوازي

31 اغسطس 2020
+ الخط -

ترجم السّيميائي والناقد المغربي، سعيد بنكراد، أخيرا، من الفرنسية، كتابين متقاطعين من حيث دلالات موضوعيهما، وقد صدرا تباعا عن المركز الثقافي للكتاب في الدار البيضاء -بيروت. ويندرجان في سياقٍ مفاده: أننا نعيش خداعا رهيبا، تقوده شركات أميركية لسلْبنا كلَّ شيء، بما فيه أقلّ أسلحتنا دفاعا، وأقواها، في الآن نفسه، اللغة والذاكرة. ولمن يعرف بنكراد عن قرب سيرى أنه من الواعين تماما مخاطرَ العالم الرّقمي، فهو ليست له صفحة في "فيسبوك"، مثلا، فيما يتعامل مع تطبيق "واتس أب" بوعي وحذر شديدَين.
يُحيل أحد الكتابَين "أنا أوسلفي إذن أنا موجود"، للمحللة النفسانية الفرنسية إلزا غودار، على البعد الفلسفي السّاخر، فقد حوّرت المؤلفة "الكوجيتو" الدّيكارتي الشهير "أنا أفكر إذن أنا موجود"، الذي عُدّ أساسَ عصر الأنوار، إلى "كوجيتو" جديد يُمثّل "أساس" العصر الذي نعيش فيه. فـ"السّيلفي" الذي يعني انغلاق الذات، وتمركزها حول نفسها، صار "كوجيتو" من نوع جديد في عصرنا هذا الذي اقتحمت فيه الرّقمية لغتنا وذاكرتنا، وكلّ ما ظل طويلا محصّنا، وفي منأى عن هذا الاقتحام المخيف الذي لا يفتأ "يتغوّل" يوما بعد يوم، ويهدم آخر الجدران التي تتحصّن بها خصوصيتنا كبشر. 
نجد في الكتاب انطباعات ثرية، وهي نواقيس خطر، وإلماعات ذكية، ورصدا متأنيا لسلوكياتنا الجمعية، وما طرأ عليها من تغير جوهري، بحيث تحوّلنا، من دون شعور منا، إلى "وسائط لنقل المعلومات وترويجها"، جعلت منا مندوبي ترويج تجاري "يعيشون في حلقة مفرغة"، وينبهنا إلى أننا أودعنا حياتنا في حيز ضيق "في الهواتف والحواسيب"، أودعنا الرغبة والحلم والذاكرة. وإليها نهرب من واقعٍ لم نعد ندرك تفاصيله إلا من خلال الصورة الدالة عليه "لذلك تشوّهت علاقتنا بالمحيط وبالطبيعة" و"لهذا السبب، نشعر أحيانا بأننا نجد صعوبة في العيش، وصعوبة في الوجود، وصعوبة في إثبات أنفسنا، ونشعر بكثير من القلق". 
أما الكتاب الثاني فبدا كأنه تطبيق عملي للأول، في تركيزه على الأمثلة التقنية، عنوانه "الإنسان العاري .. الدكتاتورية الخفية الرقمية"، للفرنسيين مارك دوجان وكريستوف لابي. وفي طبعته الفرنسية، كان الأكثرَ مبيعاً في حقل الدّراسات في الفضاء الافتراضي الرّقمي، حيث يتوسّع في ذكر الإحصائيات لما أطلق عليها "الدّكتاتورية الخفية للرقمية" من تحكّم شركات "غوغل" و"فيسبوك" و"تويتر"، عبر شركات الـ"ميلتي ناشيونال"، في حياتنا وعقولنا وطريقة تفكيرنا وسلوكنا، وفي كلّ شيء مرتبط بحياتنا الخاصة التي لم يعد فيها شيء "خاصّ."!.. لقد أصاب هذا الكتاب الناس بالهلع حين صدروه، لما تضمّنه من انتهاكٍ صارخٍ لكل خصوصية فردية، حيث نقرأ أن شركات "اَبل" و"مايكروسوفت" و"غوغل" و"فيسبوك" تمتلك 80% من المعلومات "الشّخصية" الرقمية للإنسانية، والتي أطلق عليها المؤلّفان "المنجم الذي يملك الذهب الأسود الجديد"، فقد نجحت الشركات المذكورة، إضافة إلى "أمازون"، في الاستحواذ على مجمل العالم الرّقمي. وصارت شركات "القارّة السّابعة"، كما يسمّيها بعضهم، التجسيدَ الجديد للقوة الأميركية الفائقة. وقد شرح بالاجسي سريفاناسون، وهو اسم صاعد في عالم الإنترنت، في محاضرة ألقاها في 2013، أن "الولايات المتحدة أصبحت عملاقاً يسير نحو الانحطاط، وسيلفُظها التاريخ، وعلينا خلق أمة قوامها.. الشّركات"! نعم، الشّركات، ولا شيء غير الشّركات.
ويشدّد كلا الكتابين، بحسب مترجمهما، سعيد بنكراد، على وجود خطرٍ يُهدّد البشرية في مناطقها الأكثرَ أصالة: الذاكرة واللغة، فلم يعد الافتراضي لعبةً عارضة في حياة الناس، بل تحوّل إلى وجود حقيقي له هوياته و"أنَواته" وضمائرُه ومساحاته وفضاؤه وزمانه. وقد تناول مؤلفا "الإنسان العاري.."، علاقة تربط هذه الشركات بالاستخبارات الأميركية، من دون أن يكون القصد أنّها تأسّست تحت إشرافها أو لخدمة مصالحها، وإنّما الإشارة إلى علاقةٍ وثيقةٍ بينهما يُمكن عدّها "تحالفًا" يتنكّر، لجهة ما ينطوي عليه، لمبادئ الديمقراطية، مقابل المعلومة، فالأخيرة أشدّ أهميةً وفاعلية، سياسيا واقتصاديا وإعلاميا. ويؤكدان أن الصدام بين الشّركات التكنولوجية وأجهزة السلطة الأميركية ما هو إلا "تمويه" لعلاقةٍ "يتزوج" فيها المال بالتكنولوجيا، وكلاهما بالأنشطة الاستخباراتية.. وأورد الكتاب مثالا على ذلك شركة غوغل التي تنسخ بيانات مُستخدِميها بصورة مخيفة، إضافة إلى تحليل إيميلاتهم، وهي عمليةٌ توليها إدارة هذه الشركة (وغيرها من الشركات الفاعلة في المجال الرقمي) أهمّية شديدة.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي