"كان أفضل الأوقات، كان أسوأ الأوقات، كان عصر الحكمة، كان عصر الحماقة، كان عهد الأيمان، كان عهد الشك، كان موسم النور، كان موسم الظلام، كان ربيع الأمل، كان شتاء اليأس. كان لدينا كل شيء، ولم يكن لدينا شيء، كنا سنذهب مباشرة إلى الجنة، كنا سنذهب مباشرة إلى الجحيم".
تعد افتتاحية رواية "قصة مدينتين" للإنجليزي تشارلز ديكنز، والتي تقع أحداثها بين باريس ولندن في زمن الثورة الفرنسية، واحدة من أفضل وأجمل الافتتاحيات الروائية. ليس من الصعوبة إدراك أن السر في هذه الافتتاحية هو دلالاتها إلى انتهاء عصر، وبداية عصر آخر، بكل التباساته وما يعتمل فيه من الإيمان والشك، النور والظلام، الأمل واليأس، هذا بخصوص العصر. أما البشر، فيتنازعهم ما يتحلّون به من حكمة وحماقة، وما يتصفون به من نفاق ونزاهة.
مهما حاولنا النظر إلى الروايات وتقييمها من ناحية التمييز بينها من خلال افتتاحياتها، فالمجازفة خاطئة، لا يحكم على الرواية من بضعة أسطر، ولا من المدخل، أو حتى من مشهد افتتاحي، ولو كان يشير إلى شيء ما كامن في الرواية، لن يكون مكتملاً، إذ لا ضمانة في تمكّن الروائي من الوفاء بما قد يوحي به. الافتتاحية توحي بالكثير، لكن تبقى محدودة الرقعة.
لا ريب في أن الكاتب يطمح إلى أن يعبّر المدخل عن ثراء العالم الذي سيلج إليه، أحياناً ينجح، وأحياناً يفشل، وإذا كان في النجاح غنم، فليس في الفشل مأخذ كبير على الروائي والرواية. أقصى ما يطمح إليه الكاتب في الافتتاحية أن توحي بعالم الرواية.
ترى كيف تعلق بعض الافتتاحيات في أذهاننا؟ على الأغلب، هذا عائد إلى الرواية نفسها. عادة بعد الانتهاء من قراءتها، وإعجابنا بها، تغرينا الرواية، بتصفّحها، وإعادة قراءة الصفحات الأولى. عندئذٍ قد نحسّ أننا نقرأها بشكل مغاير، إذ لكل كلمة معناها الذي سرعان ما يرتبط بأحداث الرواية بشكل أدق وأكثر تفصيلاً، يسبغ على الافتتاحية تأثيراً يبلغ من القوة أنه يعلق في أذهاننا مقترناً بما أحدثته الرواية فينا، مهما كانت الافتتاحية عادية، كما السطر الأول من رواية "1984" لجورج أورويل:
"كان يوماً بارداً من أيام نيسان، بسمائه الصافية. كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الظهر، عندما كان وينستون سميث...".
ليس هناك أكثر عادية منها. لا تسترعي النظر ولا الاهتمام، لكن بعد قراءة الرواية، يكتسي هذا اليوم البارد المشرق من نيسان، والساعة تشير الى الواحدة ظهراً، أهمية غير عادية، ابتداءً من هذا اليوم وهذا التوقيت، ستتكشّف أمامنا حقيقة عالم مرعب يهيمن عليه نظام شمولي، يسيطر على أحلام الناس، يصنع كوابيسهم، يراقبهم على الدوام، يعد عليهم أنفاسهم، لا يوفر التفاصيل التافهة لحياتهم اليومية، آلات متحركة بين جدران عالية هي سجون. مواطنون أرقام، يرضخون للأوامر، ويتقيّدون بالتعليمات في جمهورية الأخ الأكبر.