كاميرات المراقبة تُوثّق مأساة بيروت: تسجيلات لأبشع لحظات الموت

كاميرات المراقبة تُوثِّق مأساة بيروت: تسجيلات لأبشع لحظات الموت

17 اغسطس 2020
انفجار مرفأ بيروت: من يوثِّق لمن؟ (أنور عمرو/ فرانس برس)
+ الخط -

تظهر تباعاً أشرطة كاميرات مراقبة، توثِّق لحظة انفجار مرفأ بيروت (4 أغسطس/ آب 2020)، بتسجيلٍ مباشر لتصرّفات ومسالك وانفعالات أناسٍ، يوجدون في أمكنة متفرّقة، معظمها قريبٌ من المرفأ. تنكشف الأشرطة يوماً تلو آخر. تُعرَض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى شاشات فضائيات أجنبية ومحلية.

كاميرات المراقبة مُوزّعة في زوايا كثيرة. في منازل خاصة ومؤسّسات عامة. في مصارف ومطاعم وشركات ومستشفيات ومحطات وقود ومجمّعات تجارية وغيرها، فالكاميرات تحتلّ شوارع وأبنية وفضاءات كثيرة. أسبابٌ تدعو إلى ذلك. جرائم واعتداءات وحوادث سير واغتيالات. الانفجارات سببٌ أيضاً، والحاصل في مرفأ بيروت موثَّق بعدسات هواتف ذكية أيضاً، تُضاف تسجيلاتها إلى ما تفعله كاميرات المراقبة، فيمتلك المرء المهتمّ وثائق بصرية تحصِّن اللحظة من النسيان، ويُمكن أنْ تكون إثباتاً ما لفعلٍ جُرميّ، بعض نتائجه العنفية موثَّق بتسجيلاتٍ كهذه، رغم أنّ الركون إليها ربما لن يُفيد قانونياً، أو ربما تكون فائدته القانونية متواضعة للغاية (تُظهر التسجيلات أساساً تأثيرات جسدية للانفجار على الناس)، إنْ تكن هناك تحقيقات ومحاكمات عادلة وشفّافة وحقيقية. لكن تسجيلاتٍ كهذه تمتلك فائدة أخلاقية، بتحصينها لحظات عدّة للمأساة من النسيان والضياع.

تسجيلاتٌ كهذه، تصنعها كاميرات مراقبة أو أجهزة هواتف ذكية، تمتلك ميزة واحدة فقط: التوثيق الصادق. الميزة أهمّ وأكثر تأثيراً وأفضل حضوراً، لخلوّ التسجيلات من "فذلكات" صناعة الصورة، ما يجعل العفوية والواقعية، بفضل تقنيات كهذه، تمتلكان مصداقيةً، مطلوبة في التوثيق البحت.

بعض تلك التسجيلات يُضاف إلى ريبورتاجات تلفزيونية أجنبية، يتجوّل صانعوها بين الركام الجاثم على الأرض وفي النفوس، وبين بقايا غبار لا يزال هنا وهناك، ويلتقون شهوداً على الحدث في مواقعهم المختلفة. بثّ تسجيلاتٍ كهذه على مواقع التواصل الاجتماعي متأتٍ من حصول ناشطين عليها، ومن رغبة في كشف الفجيعة وأهوالها، وفي تثبيت الإنسانيّ الرائع في لحظات خطرة كتلك، كأنْ تهرع عاملة منزلية إلى أطفالٍ لاحتضانهم وإبعاد الشرّ عنهم بدافع حسّ أموميّ واضح، أو كأنْ تحمل ممرضة 3 توائم مولودين حديثاً، أو كأنْ "يرمي" أحدهم نفسه على آخرين لدرء الزجاج المتطاير والغبار الذي يهبّ عليهم بعفوية "لا غبار عليها". لحظات مؤثّرة تكشف جانباً إنسانياً بحتاً، يندر حصوله في أوقاتٍ أخرى، ويؤكّد أنّ في الفرد حساسية شفّافة وبسيطة وبديعة، وأنّ بعض هؤلاء يصنعون الفرق المطلوب في بلدٍ مدمَّر ومنكوب بسبب الطغمة الحاكمة، وفذلكاتها الأمنية والسياسية والإقطاعية والمالية.

 

تسجيلات أخرى تقول إنّ أمراً ما يحصل في لحظةٍ ما، فتكون نتيجته "إنقاذ" حيواتٍ من موتٍ عبثي، كأنْ تكون غرفة خاصّة بحاضنات المولودين حديثاً فارغة منهم لحظة الانفجار، فتلتقط كاميرا المراقبة تصرّف ممرضة في غرفة "خالية" من مولودين/ مولودات جدد. لكنْ، لنتخيّل، ولو لدقيقة واحدة، وجود مولودين/ مولودات في تلك الحاضنات، أو في بعضها على الأقلّ، لحظة الانفجار. أيّ كارثة ستكون؟ أيّ بشاعة تصنعها السلطة؟ أيّ قذارة تُنتجها الطغمة الحاكمة؟

ريبورتاجات تلفزيونية أجنبيّة تكتفي بمهنيّة إعلاميّة، وإنْ يتحكّم "موقف" سياسي ما للمحطة بكيفية التوثيق والقول والتعبير. التسجيلات بحدّ ذاتها تبقى أهمّ، والاحتفاظ بها جزءٌ من تكوين ذاكرة جماعية، تؤسّسها أو تُشارك في تأسيسها مسالك أفراد لحظة حصول حدثٍ كهذا. والاحتفاظ يبدأ فردياً، ثم ينتقل إلى حيّز عام لاحقاً، وهذا مطلوب وضروريّ، إنْ يُسمَح بحيّز يؤرشِف، ولو مُواربة، بعض نتائجَ سلبيّةٍ ومباشرةٍ لأفعال الطغمة الحاكمة.

لا علاقة لهذا بتصوير أفرادٍ بأجهزتهم الخاصّة أحداثاً كالتي تحصل في البلد. اللحظات الأولى للمُصيبة المتشكّلة في مرفأ بيروت تُصوَّر، خصوصاً بعد اندلاع الحريق، بهواتف ذكية أيضاً. هذا يؤدّي تلقائياً إلى تصوير الانفجار الكبير، رغم الهلع الذي يُصاب به مُصوّرو تلك اللحظات، فالانفجار مفاجئ، وقوّته مخيفة، وشكله مُرعب. اللافت للانتباه أنّ أفراداً يُصوّرون هذا كلّه من زوايا مختلفة، يُمكن لمولِّف سينمائي بارع أنْ يصنع منه فيلماً. لكنّ فيلماً كهذا غير مطلوب وغير مُحبَّذ صُنعه، لأنّ صُنعه يُطيح حقيقة اللحظة وصدقها وعفوية التصرّفات الفردية ومصداقيتها، وهذا مطلوب لتكوين ذاكرة فردية ـ جماعية لاحقة.

لأشرطة كاميرات المراقبة وتسجيلاتها ميزة أخرى، أساسيّة ومهمّة للغاية: لن تُتيح لأيّ يكن بظهورٍ متباهٍ أمام الكاميرا التلفزيونية، أو بارتباك قولٍ لن يكون مطابقاً كلّياً للواقع ولحظته، فالجميع يعجزون عن وصف حدثٍ ما كما هو بالضبط، وهذا غير سلبيّ كلّياً، لارتباطه بمسائل نفسية ومعنوية وانفعالية خاصّة بكلّ فرد (يُقال دائماً إنّ لكل حدثٍ ألف رواية، إنْ يُشاهدها أو يشهد عليها ألف فردٍ، لكل واحد منهم حكايته عن الحدث وفقاً لانفعاله لحظة الحدث). البعض يستغلّ الكاميرات لأقوال غير ملائمة فعلياً مع اللحظة وعفويتها، أو ملائمة جداً إلى درجة عدم تصديقها. الأشرطة والتسجيلات الخاصّة بكاميرات المراقبة تُلغي هذا كلّه، وتترك الحدث يُبرِز أسوأ ما فيه من جُرمٍ وقسوة وقهر وخيبة. مع هذا، فللحكايات الفردية أهمية، إذْ تبقى، رغم كلّ شيء، مرآة لحظة وواقع تعكس شيئاً كثيراً من سلوك المرء أثناء الحدث.

موقف
التحديثات الحية

 

لكنّ سؤالاً يُطرح: أيحقّ بثّ تسجيلاتٍ كهذه علناً وأمام الجميع، من دون موافقة أفرادٍ يظهرون فيها؟ أيُفترض بالمهتمّين بتسجيلاتٍ كهذه أنْ يتواصلوا مع أفرادٍ يظهرون فيها للحصول على موافقتهم، خصوصاً أنّ اللحظة العصيبة تدفع كثيرين منهم إلى تصرّف انفعالي غير واعٍ، لعلّ بعضهم يرفض بثّه علناً؟ أمْ أنّ هول الجريمة في مرفأ بيروت وفي تاريخ البلد أهمّ، ما يستدعي توثيق اللحظة رغم كلّ شيء، بكلّ ما فيها من صدق وعفوية؟ تنسحب التساؤلات على بعض مُصوّري أناسٍ يجلسون بين أنقاض منازلهم، وعجائز ينصرفون إلى عزلاتهم المكشوفة لعجزهم عن فعل أي شيء، مُحمَّلين بخيبة وقهر وألمٍ يستحيل لغيرهم أنْ يفهمه ويُحسّ به.

المأساة قاسية. مآسٍ أخرى مختلفة لن تكون أخفّ وطأة من انفجار مرفأ بيروت. حروب لبنان كثيرة. أحداثه العنفية، المفصلية وغير المفصلية، عديدة. لكنّ انفجار مرفأ بيروت شنيعٌ ومخيف، وتوثيقه مُلحّ أكثر من إلحاح تصوير أيّ حدثٍ سابق عليه. الجرح بليغ. الألم طاغٍ. الخيبة مدمِّرة. القهر قاتل. الصُور، إنْ تكن فوتوغرافية أو فيلمية أو منبثقة من كاميرات مراقبة كأنّها "أشرطة خام" لحدثٍ واقعيّ، تكتب فصلاً أساسياً من سيرة الموت اللبناني، رغم تحفّظ وتساؤل عن موافقة مسبقة لاستخدام صُور كهذه في إعلامٍ آنيّ أو أفلامٍ لاحقة.

بعض الإعلام اللبناني يتجوّل، منذ لحظة الانفجار، في أمكنة الخراب، وفي كواليس السياسة، وفي بؤس الاجتماع، وفي قسوة الاقتصاد. الأمكنة مفتوحة له. الكواليس مغلقة، مع أنّ أخباراً أو معطيات محدّدة "تتسلّل" إليه بين فينة وأخرى، بشكلٍ أو بآخر، لسببٍ واضح تماماً. البؤس حاد. القسوة فاعلة ومؤثّرة. لعلّ هذا كلّه يدعو إلى بثّ صُور وتسجيلات واقعية للغاية، وإلى مزج بعض صُورٍ وتسجيلات في ريبورتاجات تلفزيونية، كي يُروَى للعالم شيءٌ من أفعال الوحش اللبناني.

لذا، فليكن البثّ مفتوحاً، ولتَتَحرّر الصُوَر من قواعد ومتطلّبات، وليوافق المعنيون بالظهور، أو ربما لا داعي لسؤالهم عنه. فالجريمة غير مُحتَمَلةٍ، والشقاء غير مقبول. ولعلّ في البثّ مُتنَفساً ولو قليلاً، وفي تكرار البثّ تلقيناً لكثيرين عن هول مجزرة، تتحمّل الطغمة الحاكمة جزءاً أساسياً من مسؤولية حدوثها.

لعلّ في الظهور بأي شكلٍ تحريضاً على تنبّهٍ أكبر وأعمق لفداحة الكارثة، ولضرورة الانتفاض على مُسبّبي الكارثة، المُهمِلين والفاسدين، والمكترثين فقط بمصالحهم.

المساهمون