كارِهو الكتب والكُتّاب

كارِهو الكتب والكُتّاب

09 اغسطس 2016

(Getty)

+ الخط -

لطالما افتتح الطغاة والفاتحون عهود حكمهم بمحارق مشهديةٍ هائلةٍ، أتت على كمّ مخيف من الكتب والمخطوطات والمنشورات، حتى ليتساءل المرء: أيفعلون ذلك بسبب كراهيتهم المفرطة للكتاب، وما يرمز إليه من ثقافة ومعرفة وعلم وحقائق، أم أنها الرغبة في محو كل ما سبقهم في ذاكرة شعوبهم، بحيث يبدأ "التاريخ" معهم من نقطة الصفر؟
من بين أشهر المحارق التي عرفها العالم، تلك التي أشعلها الإمبراطور الصيني، شي هوانغ تي، عام 212 ق م، حين شنّ حملته على الكتب والمخطوطات، فأحرق منها المئات، غير أنه لم يكتفِ بذلك، بل شنّ حملةً لا تقلّ شراسةً على الكتّاب أنفسهم، فطاردهم وعرف من قُبض عليهم المصير الشنيع نفسه. بيد أن المفارقة هي في اعتبار هذا الإمبراطور من أهم شخصيات التاريخ الصيني، وهو الذي تُنسب إليه مآثر عديدة، وإنجازات حضارية مهمّة، من بينها البدء ببناء سور الصين، لوقف هجمات المغول من الشمال.
أيضا، يؤكد بعض المؤرخين أن التعصب المسيحي أدّى، خلال الحملات الصليبية، إلى حرق مليون ونيّفٍ من المجلدات التي ألّفها العرب خلال ثمانية قرون. ومن الطرائف التي رويت بهذا الشأن، إحراق مكتبة بني عمار في طرابلس، في القرن العاشر الميلادي، بعد أن ظن قسّ صليبيّ أن المكتبة لا تضم إلا نسخاً من القرآن.
ولا بد، هنا، من استذكار تاريخنا الحديث، خلال القرن الماضي، ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، إبّان هيمنة القوميات والأيديولوجيات على اختلافها. ففي العام 1933، وبعد مضي أربعة أشهر على وصول أدولف هتلر إلى السلطة في ألمانيا، وتحديداً في العاشر من مايو/ أيار، حملت مجموعاتٌ كبيرةٌ، تشكّلت من القادة النازيين والطلاب والأساتذة الجامعيين، الآلاف من مؤلفات كتّابٍ لا يملكون "الروح الألمانية"، ولا يعبّرون عنها، ومنها كتب العلماء المعادين للنازية، ومناصري السلام، وفلاسفة الشيوعية والاشتراكية، والكتّاب اليهود، إلخ، ورمتها وسط ألسنة اللهب والنيران التي تم إشعالها في ميدان الأوبرا، وسط برلين، حيث احتشد أكثر من 70 ألف شخص لمشاهدة المحرقة. هذا ويشير بعض دارسي شخصية هتلر إلى أنه كان قارئاً نهماً وانتقائياً، بدليل أنه امتلك في حياته ما يزيد عن 16 ألف كتاب، تأثر بها وأثرت على تخطيطه وتنفيذه كل ما ارتكبه من تدمير وإجرام.
بيد أن إحراق الكتب، أو "قتلها" إذا صحّ التعبير، ليس قصراً على "الآخرين" فقط، فلقد أبدع العرب، أيضاً، في هذا المجال، بحسب مؤلّف "حرق الكتب في التراث العربي"،  ناصر الحزيمي، الذي مهّد لموضوعه بتناول أحوال الكتابة في الإسلام، وبالإشارة إلى أن العرب أجلّوا الحفظ، وأعلوا من شأنه، في حين أنهم ذمّوا الكتابة والكتب. إن "احتقار كتابة العلم بالقراطيس هو سمة عربية صميمة، وهو رأي جمعي عند العرب المتقدّمين، أورثوه لمسلمي صدر الإسلام". القرآن الكريم هو الوحيد الذي نجا من هذا العداء، فدُوّن مصحف عثمان، وأحرقت المصاحف الأخرى. وبحسب ابن سعد في "الطبقات الكبرى"، أمر عمر بن الخطاب بحرق مكتبة فارس، أي مكتبة ملوك الفرس التي كانت، ولا شك، تحتوي على ملايين الكتب، معتبراً أن لا كتاب بعد القرآن.
وفي الأندلس، درجت ظاهرة حرق الكتب، في القرنين الخامس والسادس للهجرة، فقد أحرقت كتب الإمام ابن حزم الظاهري في عهد "أمراء الطوائف"، وكتب الإمام أبو حامد الغزالي في عهد أمير دولة المرابطين، علي بن يوسف بن تاشفين، وكذلك كتب ابن رشد في عهد أمير دولة الموحدين المنصور.
لائحة كارهي الكتب ومحرقيها من أهل السلطة تطول. هي كراهية الرأي الآخر والرأي المخالف والرأي الحرّ والرأي الذي لا يهادن مع الحق والحقيقة. اليوم، اللائحة مرشحةٌ لأن تطول وتتجدّد، وقد انضمّت إليها أسماء جديدةٌ من كارهي الكتب والتماثيل والفنون، من كارهي كلّ من ليسوا هم، وهم كارهو أنفسهم وكارهو الحياة.

 

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"