كارولا ورفاقها... منقذون أوروبيون لا يؤمنون بالحدود

كارولا ورفاقها... منقذون أوروبيون لا يؤمنون بالحدود

03 يوليو 2019
"الحرية لـ كارولا" في كولونيا غربي ألمانيا(فيديريكو غامبريني/فرانس برس)
+ الخط -

بينما تزداد مواقف اليمين الأوروبي تشدداً تجاه المهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى شواطئ القارة بحثاً عن مستقبل أفضل، ينبري بعض المتطوعين لتولي مهمة إنقاذهم، متحدّين حكومة إيطاليا وغيرها

أعاد اعتقال قبطانة سفينة "سي ووتش 3" الألمانية كارولا راكيتي (31 سنة) يوم السبت الماضي، وتوعد الحكومة الإيطالية بمحاكمتها وسجنها بين 3 و10 سنوات، باتهامات لا علاقة لها بعملها التطوعي بإنقاذ البشر من الغرق، حين أصرت على الوصول إلى ميناء جزيرة لامبيدوزا الإيطالي لإنقاذ أكثر من 40 مهاجراً، تسليط الأضواء على المعضلة الأوروبية في تعاطيها مع سياسة الهجرة، وتركيزها على حلول أقرب إلى لامبالاة، مع تركيز على حراسة الحدود. وهو ما أثار أيضاً تعاطفاً كبيراً مع كارولا وبقية الناشطين الأوروبيين، ودفع بعشرات آلاف الناس للتبرع لسفن الإنقاذ بمئات آلاف اليوروات لعلمهم أنّ إيطاليا باتت تفرض غرامات مالية طائلة على السفن في سبيل تخويف العاملين عليها ووقف العمل التطوعي في البحر الأبيض المتوسط.

خلال السنوات الخمس الماضية فقد ما لا يقل عن 18 ألف إنسان حياتهم غرقاً في مياه البحر الأبيض المتوسط أثناء محاولة الوصول من سواحل شمال أفريقيا نحو البرّ الأوروبي، وهي المحاولات التي شهدت أوجها في 2014 و2015 بمراكب خشبية متهالكة وأخرى مطاطية تتكدس فيها أضعاف مضاعفة من سعتها الأصلية. وتراجع الأوروبيون منذ عام 2015 عن عمليات الإنقاذ الرسمية، وزادوا من مراقبتهم ومنعهم مراكب الهجرة، وفتحوا تعاوناً مع بعض سلطات جنوب المتوسط للمساعدة على حراسة حدود أوروبا الخارجية. وسط تلك السياسات العنصرية والعدائية تجاه فقراء الجنوب، ظهر أوروبيون ناشطون ليأخذوا على عاتقهم مهمة المساعدة في إنقاذ الآلاف من الغرق. وخلال السنوات الماضية بات هؤلاء الأوروبيون أنفسهم عرضة لملاحقة واتهامات وجلب إلى القضاء تحت طائلة حملات تحريضية في عدد من دول القارة تصنف أعمالهم بالإجرام وتهريب البشر، ولم تسلم حتى منظمة "أطباء بلا حدود" من تلك الاتهامات التي يتصدر مطلقيها مؤخراً زعيم حزب "رابطة الشمال" الإيطالي الفاشي، نائب رئيس وزراء البلاد، ووزير داخليتها، ماتيو سالفيني، مع تحالف قومي متطرف ودعم من بعض سياسيي أوروبا، ومسؤولي الحركات الشعبوية المعادية للمهاجرين عموماً.




تحدّي سالفيني
سياسة سالفيني "صفر لجوء وهجرة" وبدعم من يمين القارة المتطرف، في مواجهة مساعدة وإنقاذ مهاجري القوارب، جعلته العام الماضي ينجح في تسويق خطابه القائل: "كلما سمحنا بالإنقاذ أكثر كلما غرق أناس أكثر" وفرض حظر على سفن إنقاذ المنظمات غير الحكومية منذ العام الماضي 2018. أثمرت جهوده إلغاء تسجيل سفينة "أكواريوس 2" بالضغط على دولة بنما لسحب تسجيلها، وبالتالي منعها من الإبحار، بعدما شكلت "أكواريوس 2"صداعاً أوروبياً، بإنقاذها نحو 600 شخص في صيف العام الماضي، ورفض إيطاليا السماح برسوها وإنزال المهاجرين الذين أنقذتهم، من دون وعود أوروبية بتوزيعهم في ما بين دول القارة. سالفيني انتهج خطاباً متشدداً ومحرضاً على المنقذين الأوروبيين، بوصف سفن وقوارب منظمات غير حكومية متعاونة على مساعدة مهاجري المتوسط، مثل منظمة مظلة المتطوعين "إس أو إس البحر المتوسط" و"أطباء بلا حدود" و"خط الحياة"، بأنّها "مراكب قرصنة" مهدداً باعتقال ومحاكمة كلّ من يجري توقيفه بينما يحاول الوصول إلى موانئ إيطاليا لإنقاذ المهاجرين من الغرق.

منظمة "أطباء بلا حدود" اعتبرت في بيان لها في سبتمبر/أيلول الماضي أنّ خطوة سالفيني هي انعكاس لتكتيك أوروبي "مميت وشرير. وهو نهج مرفوض في إصرار حكومة روما على المضيّ في سياستها وإن أدت النتائج إلى موت الناس غرقاً وبلا شهود".

ومنذ أصبح سالفيني وزيراً للداخلية، لم يعدم وسيلة للتعاون الثنائي مع بعض الدول، كمصر ومالطا وخفر السواحل الليبي، لتعزيز وقف الهجرة، وأحياناً طرح مشاريع مقايضة مساعدات واستثمارات بفتح "نقاط التقاط" أو "معسكرات تجميع" على أراضي بعض دول شمال أفريقيا، ومن بينها مصر، فيما رفضت تونس المخطط الذي تبناه أوروبيون آخرون، باسم "مساعدة اللاجئين في مناطق دول الجوار القريبة". وشدد سالفيني خلال الأشهر القليلة الماضية، بالتوافق مع حليفه لويجي دي مايو، على ما سماه مكافحة "الهجرة غير الشرعية" بمعاقبة مالية لكلّ من يساعد المهاجرين، تتجاوز 5500 يورو عن كلّ شخص يجري إنقاذه. وردّت مجموعة من المنظمات غير الحكومية العاملة في المتوسط، على قرار سالفيني بأنّه "لن يلغي واجب إنقاذ البشر" بالرغم من المنع الإيطالي، وتلكؤ الأوروبيين الآخرين عن استقبال من يجري إنقاذهم، وحتى الاستجابة لاستغاثات غرق القوارب، كما جرى في حادثة يناير/كانون الثاني الماضي حين غرق 173 شخصاً من بينهم نساء وأطفال، ونجا 3 رجال فقط، قدموا شهادات مروعة عن طريقة الغرق وعدم الاستجابة لنداءاتهم.

راكيتي معتقلة في لامبيدوزا (فرانس برس) 












بعودة نشاط سفن الإنقاذ غير الحكومية إلى الواجهة في أواخر يونيو/ حزيران الماضي، ومع اعتقال كارولا راكيتي، تعود أيضاً قضية الناشطين الأوروبيين المتطوعين والمخاطرين بحياتهم لإنقاذ قوارب مهاجري المتوسط، إذ يبرز التحدي الذي يظهره هؤلاء لسياسات سالفيني، بالإصرار على كسر قراره حظر استقبال أيّ مهاجر إضافي. فبالرغم من كلّ الاتهامات والتصريحات بقيت سفن "سي ووتش"، و"سي آي"، وغيرها من مراكب الإنقاذ الأوروبية غير الحكومية، تبحر في المتوسط متحدية أمواجه وأمواج تحريض سالفيني عليها متسلحاً بشعبية كبيرة في بلده، وهو ما أظهرته انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة، ومتسلحاً بأنّ ثلثي الإيطاليين يؤيدون سياسته بمنع السفن من العمل.

هؤلاء المتطوعون الأوروبيون، ومن بينهم راكيتي، لا يترددون في تحدي الانغلاق الأوروبي و"الابتعاد عن تحمل مسؤولية ما يجري في دول المنشأ" بحسب ما يقول ناشطون من النرويج والدنمارك يعملون تطوعاً مع منظمات غير حكومية في البحر المتوسط. فليس سراً أنّ متطوعين أوروبيين، من النرويج والسويد وألمانيا، ممن شاركوا أو ساعدوا، في إبحار قوافل الحرية لكسر الحصار على قطاع غزة العام الماضي، قاطعين مسافات من شمال النرويج بباخرة كسر الحصار، يصرّ بعضهم على أنّه شارك ويشارك في حملات إنقاذ المهاجرين في المتوسط، بل إنّ بعضهم يبعث برسالة تتردد دائماً: "ما نقوم به ليس سوى تطبيق لقيم إنسانية عالمية تفرضها قوانين البحار بأن تقدم المساعدة لمن يطلبها لا أن تتركهم يغرقون، ومن يقول إنّنا قراصنة هو من يمارس القرصنة بحق قيمنا الأوروبية" كما يذكر لـ"العربي الجديد" أحد المنقذين في "إس أو إس" النرويجي تشارلي، الذي اعتقل أكثر من مرة بواسطة أكثر من دورية بحرية أوروبية في المتوسط.




ترحيب وتنديد
الاعتقال الأخير للقبطانة كارولا، وقع عندما أبحرت بسفينة الإنقاذ "سي ووتش 3" باتجاه مرفأ جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، وتوعدت إيطاليا بمحاكمتها وسجنها وفرض غرامة كبيرة عليها، وهو ما يعتبره البعض بمثابة "انتقام ومحاولة تخويف بقية الناشطين الأوروبيين المتطوعين في عمليات إنقاذ المهاجرين". فسالفيني توعد "سي ووتش" منذ مايو/ أيار الماضي، أي قبل أن تخرق كارولا الحظر يوم السبت الماضي، معتبراً أنّ "الثمن سيكون كبيراً وسنمنع سي ووتش بكلّ الوسائل من الوصول إلى الموانئ الإيطالية". أما الحنق الإيطالي اليميني المتشدد على كارولا بالذات، فليس بجديد، فهي ليست المرة الأولى التي تنقذ فيها مهاجرين من الغرق، فقد تكرر الأمر أكثر من مرة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، وأصبحت وجهاً معروفاً لإيطاليين يبثون كراهية ضدها أو بين هؤلاء المتعاطفين والمعارضين لسياسة اليمين المتشدد في بلدهم.

التحدي الذي أظهرته كارولا لم يكن سرياً، بل نشرت هذه الشابة الألمانية من السفينة التي تقودها مقطع فيديو تشرح فيه تصميمها على الوصول إلى مرفأ لامبيدوزا بسبب مخاطر على حياة المهاجرين ومنع السلطات لها من الرسو القانوني بالرغم من معرفتها بأنّ تحقيقاً قد فتح بحقها في إيطاليا منذ فترة.

وحين جرى إنزال كارولا عن متن "سي ووتش 3" على أرض جزيرة لامبيدوزا، من قبل الشرطة الإيطالية، كان ينتظرها من يصفق لها من شعب الجزيرة ترحيباً بها لشجاعتها، كما نقلت صحف إيطاليا وألمانيا المقاطع التي نشرها ناشطون. لكن، في الوقت نفسه ثمة من كان يصرخ في وجهها مندداً، وهؤلاء هم من المتأثرين بالخطاب الشعبوي المتطرف في القارة.

وتشير عمليات جمع التبرعات التي انطلقت في بلد كارولا، ألمانيا، فور الإعلان عن اعتقالها، بمئات آلاف اليوروات، وبمشاركة عشرات آلاف المتبرعين، إلى أنّ أزمة أوروبا التي أسند حلّها إلى معسكر التطرف والتحريض القومي، لا تستهدف فقط هؤلاء الضعفاء الباحثين عن حياة أفضل، هرباً من ظروف معقدة يشيح عنها سياسيو القارة أنظارهم لأجل مصالحهم، بل تستهدف ضمير القارة، الذي يعبر عنه هؤلاء الشبان والنساء الأوروبيون الذين يتركون خلفهم حياة الرفاهية في قارتهم لإنقاذ أرواح المهاجرين.

تضامناً مع راكيتي في روما (Getty) 












كارولا راكيتي امرأة في الحادية والثلاثين من عمرها، لم تتردد في يوم 26 يونيو/ حزيران الماضي، في التعبير لصحيفة "دير شبيغل" الألمانية عن "الغضب والخيبة من سياسة الاتحاد الأوروبي التي جعلتنا طوال أسبوعين محل إهمال المفوضية الأوروبية، ولم يبدِ أحد استعداده لتحمل المسؤولية". وعن هؤلاء الذين أنقذتهم "سي ووتش 3" قالت كارولا: "إنّهم ممن تعرضوا لفظائع وتعذيب في معسكرات ليبية، بعضهم كان على وشك الانتحار بالقفز إلى الماء ولا يعرف السباحة". وبالرغم من تهديد وزير داخلية إيطاليا ماتيو سالفيني لها قبل وصولها إلى لامبيدوزا قالت لـ"دير شبيغل": "أنا أتحمل مسؤوليتي".

والغرامة التي تقع على القبطان الذي ينقل مهاجراً في القانون الإيطالي تصل إلى 50 ألف يورو مع حجز السفينة، وهو ما استفز البعض وجمع تبرعات لها وصلت حتى الآن إلى نحو مليون يورو. وعن أيّ حكم تتوقعه بحقها وحق "سي ووتش" أجابت: "كتب التاريخ ستسجل إذا ما حكمونا بالسجن... وهؤلاء يتهموننا بأنّنا خرقنا الدستور الإيطالي، لكنّنا أنقذنا حياة بشر".

أما والدها فيقول عنها إنّها "تدرك ما تفعل، حتى لو منعتها أو أخفتها ستقوم بما تراه مناسباً". فالوالد إيكهارت كان نفسه ضابطاً في الجيش الألماني، وقد وجه كلماته إلى سالفيني: "ابنتي ليست سوى ابنتي التي درست من جيبها وكانت دائماً مستقلة، هي ليست من عائلة ثرية لكنّها دائماً كانت تعرف ماذا تريد، وهي قامت بالتصرف الصحيح، وأنا فخور بها". والدتها سيغلنيدا تبدو في حديثها للصحافة الإيطالية "غير قلقة على ابنتي بقدر قلقي على أبيها فهو في الرابعة والسبعين من عمره".

ومما تثيره أسرتها أنّ كارولا كانت دائماً ناشطة في شبابها تسافر إلى أميركا الجنوبية وتساعد المرضى، بل سافرت وحدها إلى باكستان لمساعدة الناس. خبرتها في قيادة السفن أو المساعدة في قيادتها ليست جديدة، فبعد انتهاء دراستها الثانوية التحقت بمدرسة البحرية في بلدها، بمدينة بريمن الألمانية. ونشطت كارولا مع منظمة "غرين بيس" والتحقت بإحدى الجامعات البريطانية لتنهي دراسات عن البيئة والمناخ. ومنذ عام 2016 أصبحت عضوة ناشطة في سفن "سي ووتش" وقبطانة تجوب المتوسط تطوعاً. وليست كارولا مرتبطة و"لا خطيب أو حبيب لها"، بحسب والدها.

بدأت سفن الإنقاذ عملها الفعلي وعلى نطاق واسع عام 2015 بمبادرة من القبطان الألماني السابق، كلاوس فوغل، والسيدة الفرنسية صوفي بيو، بعدما أوقفت إيطاليا في 2014 عمليتها للإنقاذ البحري "مارا نوستروم". المكتب الرئيسي لمنظمة الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط "إس أو إس" يقع في مرسيليا الفرنسية، وقد أسست مكاتب استجابة فرعية في دول متوسطية أخرى، وبعضها بقي سرياً خشية الملاحقة الرسمية اللاحقة التي أصبحت أكثر عدوانية وتنسيقاً بين مختلف الدول الأوروبية.



وتطوع دورياً شبان وشابات، بل مسنون تجاوزوا السبعين أحياناً، من مختلف الدول الأوروبية، على متن مختلف سفن إنقاذ البشر تلك. وعلى سبيل المثال، تمكنت سفن "أكواريوس" وهي التي تشترى عادة بتمويل شخصي ومن متبرعين من إنقاذ نحو 29 ألفاً في 2015. واتهمها اليمين الأوروبي المتشدد بأنّها منظمة "تاكسي بحري للهجرة"، وتوعدها اليمين الإيطالي المتشدد قبل وصوله إلى السلطة. وحين أصبح ماتيو سالفيني نائباً لرئيس الوزراء ووزيراً للداخلية راح يطبق وعوده بملاحقة المنظمة وسفن الإنقاذ بتأليب الرأي العام الذي كان يتضامن مع عملها، باتهامات خطيرة أنّها مركز لعمليات مهربي البشر ومبيضي الأموال. وبالرغم من ذلك، فقد توسعت هذه المظلة لتشمل منظمات أوروبية أخرى من إيطاليا نفسها ومن سويسرا وشبكة متطوعين ناشطين، إلى جانب ألمانيا وفرنسا، من دول إسكندنافية، خصوصاً السويد والنرويج.

دلالات

المساهمون