قُنصُلٌ "مَا شـافـش حـاجَـة"

قُنصُلٌ "مَا شـافـش حـاجَـة"

29 أكتوبر 2018

صحيفة يني شفق تطالب القنصل السعودي بالسكوت (17/10/2018/Getty)

+ الخط -
(1)
تقع الجريمة الكبرى، وقد لا يفطن المحققون لأدوارٍ قام بها بعضٌ يحسبونها صغيرة، فتكون عند المحك أكبر مما يتصوّر الناس.
ولأني، بحكم مهنتي الدبلوماسية السابقة، وقد كنت يوماً قنصلا في سفارة بلادي (السودان) في الرياض، فإني أنظر من زاويةٍ تخصّني، بصفة شخصية، إلى الذي جرى في قنصلية المملكة السعودية في إسطنبول، فأستعجب ممّا وقع، وممّا رابني من مسلك مرتبك لقنصل عام المملكة في إسطنبول، محمد العتيبي.
أبانت اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، من غير لبسٍ، مسؤوليات قناصل الدول في البلدان الأجنبية ومهامهم. على أن التاريخ الدبلوماسي حفل بقصص شتى عن مدى التزام الدبلوماسيّ أو القنصل بقول الصدق من عدمه. من مأثور ما يُحكى في المراجع الدبلوماسية قولٌ للمبعوث الدبلوماسي البريطاني الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، السير هنري ووتن، قوله: "السفير رجل أمين بعثت به دولته إلى الخارج لكي يكذب من أجل مصلحة بلاده". وما رأيتُ دبلوماسياً أو قنصلاً، انطبق عليه فحوى هذا القول المأثور، أكثر من قنصل المملكة السعودية في إسطنبول، محمد العتيبي.
(2)
من أوكد مهام الممثل الدبلوماسي والقنصلي أن يقدّم لرؤسائه، ولولاة أمره من السياسيين، النصح بشأن ما يلي إنجاز مهامه، وما يتصل بعلاقة دولته بالدولة التي اعتمد فيها. فإن بلغته توجيهاتٌ أو تعليماتٌ، ورأى أن عقبات تكتنف تنفيذها، فعليه، مستصحباً ما اكتسب من مهنيته الدبلوماسية، أن ينصح لو اشتم فيها مخاطر قد تسيء لصورة بلاده أو تشينها.
من المؤسف أن تكون مكاتب قنصلية دولة ما مسرحاً لتصفية مواطن يتبع لها، ومن معارضي حكومتها، وتنفذ بصورةٍ مروّعةٍ، والأغرب أن يكون قنصلها شاهداً، وربما مشاركاً، في تلك التصفية المروّعة، وهو في آخر الأمر ضيفٌ في ذلك البلد الأجنبي.
يُفترض، وبحسب الاتفاقيات الدولية المرعيّة، أن تحمي أي قنصلية رعاياها، لا أن تتآمر لمطاردتهم وملاحقتهم، وتعدّ فخاخاً لاصطيادهم وتصفيتهم، على النحو الذي رأينا عليه حال القنصلية السعودية في إسطنبول. لم يكتفِ القنصل بالقيام بلعب دورٍ في ذلك الفخ، بل يواصل تلك التمثيلية الفجّة حتى نهاية فصولها، فيفتح مكاتب قنصليّته، وبعد أيام من تنظيف المسرح، لصحافيين لمعاينة إن كان الصحافي جمال خاشقجي قد أخفته القنصلية في مكاتبها.

(3)
مثيرة للضحك تلك الفقرة التمثيلية التي قدّمها ذلك القنصل، يطوف أمام مصوّري القنوات الفضائية، من مكتب إلى آخر، ويفتح الأبواب، ويرسل بصره إلى أرفف المكتب ودواليبه وخزاناته وأوراقه، بحركاتٍ مسرحية غاية في البلاهة. يستطيع مَن له أقلّ دراية بلغةِ الجسد أن يستنتج أنّ الرجل أبقى يديه مخفيتين في جيوب بنطاله طوال جولاته مع الإعلاميين، ما يوحي أنه يخفي شيئاً ما، أو يتعمّد ألا يبوح بكلّ ما يعرف.
وإني لأعجب كذلك من صمت رئيس البعثة الدبلوماسية في العاصمة التركية أنقرة. بمقتضى الحال والأعراف والتقاليد الدبلوماسية المرعية، فإن القنصلية في إسطنبول تكون تحت إشراف السفارة في أنقرة، غير أننا لم نسمع للسفارة السعودية صوتاً أو موقفاً، في كل مراحل التحقيق في وقائع الجريمة البشعة التي جرت في تلك القنصلية. والقنصليات، في أكثر الأحوال، فروع من البعثة الدبلوماسية الأم، ولا ينبغي، بمقتضى الحال، أن تمنح نفسها استقلالاً إدارياً كاملاً عن رعاية تلك السفارة الأم وإشرافها، إلا إذا قام بين الدولة الموفدة والدولة المضيفة اتفاقٌ قنصلي خاص بينهما، يحدّد شكل التبعية وحدود الصلاحيات القنصلية، وبقية الامتيازات والحصانات.
(4)
أما مغادرة ذلك القنصل مقر عمله، وعودته إلى بلاده، فأمر مريب، لا يتسق والشبهات تحوم حول وقوع جريمة جنائية كبرى في قنصليته. لعلّ الأوفق والمتوقع أن تعمد الدولة المضيفة إلى إبلاغه، على الفور، أنه غير مرغوبٍ فيه، وأن عليه المغادرة في الفترة التي تحدّدها سلطات البلد المضيف (وزارة الخارجية التركية)، فيما الزوبعة على أشدّها، والخناق يضيق على ذلك القنصل وعلى موظفيه، كون القنصلية مسرحاً لجريمة قتل شخصٍ معارض لحكومة البلد الذي تتبع له القنصلية، فإن الحكومة التركية لم تبدِ تحفظاً بشأن مغادرته، على الرغم من وجود ما أقنعها مبكراً بوقوع جريمة جنائية مروّعة داخل مكاتب ذلك القنصل وسكنه. ولربما كانت للجانب التركي حساباته الخاصة وراء ذلك.
(5)
تتصاعد أزمة الجريمة البشعة، وستتبعها مراجعاتٌ سياسيةٌ من أطرافٍ عديدةٍ لعلاقاتها مع العربية السعودية. لكن تبقى للتفاصيل أهميتها، وشياطينها. شاهد القنصل الذي غادر كلّ شيء، بل ربّما هو الذي أعدّ المسرح والديكور، واستضاف ضيوفه لإنجاز المهمّة المروّعة. ولكن بقي لنا أن نقتنع أنه قنصل "ما شافش حاجة".

دلالات