قيامة البتول الأخيرة.. قراءة سردية لغوية (2)

قيامة البتول الأخيرة.. قراءة سردية لغوية (2)

29 يوليو 2019
+ الخط -
وقفنا -في الجزء الأول- على توظيف الروائي المتقن للزمن، وروعة رسم اللوحة الروائية بتفاصيل السهل الممتنع؛ فالقارئ العادي يجد فيها ما يطيب له، ويرى الناقد الأكاديمي ما يثير فكره ويغازل قلمه. والحق أقول، وردتني مجموعة رسائل حول التناول النقدي للرواية، وأنه يرتفع عن المستوى العادي، وليس لي في ذلك أيُّ فضلٍ؛ فالفضل يعود للمبدع الأستاذ زياد كمال حمامي، والنقد يقتفي أثر الإبداع ولا يخلقه. 

أما في ما يتعلق بالحوار، والمرور عليه دون تعمُّق أو تفصيل؛ فإنني آثرت أن أقف عنده مليًّا عقب تناول الشخصيات، وأن أدور في فلك الحوار والتناص وعتبة النص الروائي لاحقًا، حتى لا أرهِق القارئ الكريم بتفاصيل كثيرة دفعةً واحدة. ووصلًا لما سبق من تناول عنصر الزمن؛ فإننا نستأنف الحديث مع مستوى التواتر/ التكرار، وينقسم إلى: 

التواتر الانفرادي (المحكي المفرد)

يعرف كذلك بالتواتر المفرد أو الفردي، وفيه يأتي الأديب -في سياق الرواية- بقصة ما ولمرة واحدة فقط، هذا أبسط تعريف للتواتر الانفرادي. تجد ذلك في حادث قتل "أبو جمرة" أخته الوحيدة رحمة، ذبحها بدمٍ بارد، فصل رأسها عن جسدها ثم رفعه عاليًا؛ بدعوى غسل العار وتطهير الذيل، لكنها لم تخطئ، إنما أصيبت بانتفاخ البطن إثر انتفاخ شديد للمبيض، وأكد الطبيب بعد فوات الأوان أن "رحمة" قد نُحرت دون جرمٍ ارتكبته. لك أن تتمعن في هذه الدلالة الرمزية، وما تحمله من مضامين مكثفة، وعلى طريقة القدماء فالبلاغة لمحةٌ دالة، وهنا تحققت اللمحة المقصودة.

نرى كذلك التواتر الانفرادي في حديث آكوب، الخياط الأرمني، عن نزوح الجالية الأرمنية إلى لبنان، ومعاناة بنت عمته الدكتورة "ماري" طبيبة الأطفال، وابن خالته "جورج" صديق رئيس جمهورية أرمينيا "سيرج سركسيان"، الرئيس الحلبي المولد السوري الأصل.

كذلك هجرة بنجامين ابن أبراهام اليهودي، رغم معارضة والديه، وكان في العشرين من عمره، وفي معرض الاستباق، كان آخر ما قاله: "سيأتي يومٌ وستندمون على البقاء في هذا البلد.. ستندمون". مقتل العجوز "أبو بكري" حارس المتحف على يد المشرَّط، ما دار بين (أبناء الحليب) من قسم الولاء، وطقوس هذا القسم الغريب، وموسيقى البلاك ميتال المصاحبة، والنصوص التي رددوها إبان هذه المناسبة، وما جرى في حفل ميلاد ليزا، ينتمي إلى هذه التقنية السردية. 

كذلك -وبأسلوب ساخر يعكس قتامة الوضع- رأينا موقف "الشعرور المتعملق"، الفائز بجائزة (الكونسروة) الشعرية العالمية، واسمه عروة بن الوداد الغامري، من ريف حلب الشرقي، جانب مزبلة أبو عمشة البهلوان! فضلًا عن مواطن أخرى ترجمت تقنية التواتر الانفرادي بصورة معبرة.

التواتر المتشابه/الترددي (المحكي التكراري المتماثل)

يسرد لنا الراوي ولمرةٍ واحدةٍ فقط ما جرى أكثر من مرة، ونرى ذلك جليًا في قول النونو "إنه يسمع كل يومٍ أصوات بكاء النساء المغتصبات علنًا من ميكروفون مسجد الشيخ سيتَّا، قبل وأثناء أذان الفجر"، وتراه واضحًا في حديث روز -زوجة أبراهام فارحي اليهودي- لابنتها ليزا عن البرلمان السوري عام 1932، وقتما كان النائب اليهودي يوسف لينادو، وكذلك عام 1947 حين وصل النائب اليهودي وحيد مرزاحي لكرسي البرلمان، وكيف كانوا يُعدّون مواطنين سوريين.

كلام والد آكوب له مرارًا "لقد استقبلنا أهل حلب بالأحضان يا آكوب، رغم أنهم كانوا يعانون المجاعة اللئيمة".

التواتر التكراري/التكرري 

تأتي قصة اختفاء البتول على رأس هذا النوع من التواتر السردي، والذي يراد به أن يقدِّم لنا الأديب أكثر من مرة حدثًا وقع مرةً واحدة؛ فإن اغتصاب البتول واختفاءها كان لمرة واحدة، لكنها ظلت تصاحب الأحداث، وتلوح في خيالات الأبطال، ينسجون حولها الحكايا. 

"تتراقص البتول بثياب بيضاء، كعروس في ليلة زفافها، تتمايل كفراشة وتداعب الزهور والأشجار الخضراء، في حديقة حلب الكبرى، تتراقص، تطير، ترتدي الأساور بيديها، والخلخال في قدمها. ترقص معها حوريات يرتدين الأبيض، يشرن إليها أن تأتي إليهن، تتوجه نحوهن، تتراقص، تطير كحمامة بيضاء في أطياف الشمس والأزهار".

وبعد مقتل رجل ما، قريبًا من بيت أبراهام فارحي اليهودي، لم تكن جريمة قتل بدافع السرقة؛ فمتعلقاته الثمينة وساعته الفخمة ودولاراته مكانها، لكن الدافع غامضٌ؛ فتأتي العرافة "خاتون" الساحرة، تجحظ عيناها عند رؤية الجثة، ثمة أمرٌ تعرفه العرافة ولا يعرفه غيرها، ويقطع صوتها استغراب الأهالي وهمهماتهم، قالت بثقة: "ألم أقل لكم إنها البتول؟! وأردفت بثقة قبل أن تدير ظهرها وتغادر: هي البتول، وكما قال عبدو كوسا إنها تأتي بهيئة رجل وتنتقم".

تتراءى البتول ليحيى في المستشفى"تفتح البتول باب الغرفة، تقف أمام يحيى، تنظر إليه بحزن شديد، ينظر إليها بعينين يشوبهما غبشٌ فاحم كالدخان، وشيءٌ من ضباب"، ولعبد السلام في صحوه ونومه وتتهيأ له عند مقتله "لومضة خاطفة، تهيأت له البتول، ها هي ذي تقفز أمامه بفرح، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، تنظر إليه بمحبة وشوق، يمد يده إليها، تشير إليه أن يطير مثلها فوق حقول القمح وبساتين الورد، فوق قلعة المدينة".

مثال آخر على هذه التقنية، نجد علاقة عبد السلام مصطفى بالسائحة الكندية سوزانا، ومبعث تكرارها غير مرة في سياق الأحداث، ما طبع هذه العلاقة من غموض في بدايته، ومن مجازفة غير محسوبة وطيش شابٍ مزقت الحرب أوصال أحلامه؛ فنقلتها من خانة الممكن إلى خانة المؤجَّل. بدأ بنحت تمثال الحرية، لكن ظروف الحرب حالت دون إنجازه، وقضى وحلمه معلَّق منقوص!

التواتر التفردي الترجيعي 

في هذا النوع، يذكر الروائي -ولمراتٍ عديدة- ما وقع مرات عديدة؛ ممارسات الجقجوق ابن الزيزافونة الزانية، هذا المصاب بداء "النيكروفيليا"، ومعاشرة السيدات القتيلات في الحرب من أبرز أمثلة هذا النوع من التواتر. سيداتٌ لم تسلمن من الموت دون جريرة، ثم من الاغتصاب بعد الموت! 

اعتاد الجقجوق هذه العادة الشيطانية، وتكررت ممارسته غير مرة، إلى أن اكتشف أمره، وأجهز عليه رجالات الحارة بطعنةٍ جماعية، صرخة في وجه الشذوذ والاغتصاب وامتهان حرمة المتوفى، صرخة تأخرت لكنها مع ذلك تمثل رادعًا لكل من تسول له نفسه الاستخفاف بالأعراض وكرامة الشعوب ومقدرات الأوطان. الطفلة "هبة" وحياتها بعد مقتل أمها، وتبني الخوجة "عيشة" -زوجة العجوز "أبو بكري"- لها وإخراجها من الحالة النفسية الكئيبة، وما كابدته هبة من آلام إبان تلك المدة، تندرج في سياق هذه التقنية.

عالم أبناء الحليب السري، وكواليس تحركاتهم المشبوهة، وسرقة التراث السوري وتهريبه، وهتافات أبراهام فارحي "أخوة الحليب تنتصر"، وما ينضوي في سياقها، كلها متضمنة في سياق التواتر التفردي الترجيعي، وتكشف عن قدرة الراوي المدهشة، وامتلاكه أدوات الإبداع الروائي.

هذا ما تيسر ذكره في العنصر الأول من عناصر الرواية، عنصر الزمن، والآن ننتقل إلى المكوِّن الثاني من مكونات العمل السردي؛ الأفضية/ الأمكنة.

أفضية الرواية

بعيدًا عن التأصيل اللغوي والاصطلاحي لعنصر المكان في الرواية؛ فإننا نجد تعريفات لها دلالة عميقة لدور المكان في العمل الروائي؛ ففي "بنية الشكل الروائي" يرى حسن بحراوي أن "المكان شبكةٌ من العلاقات ووجهات النظر، تتضامن سويًّا لتشكيل الفضاء الروائي"، أما المبدع خيري شلبي فيُعلي من شأن المكان حتى يقول "إنه البطل الأول في كلِّ الحياة، هو الأول والأخير" ثم يستطرد عمنا خيري "نحن جزءٌ من المكان؛ ألسنا أبناء الأرض؟! أي أنَّ المكان الذي أنتجنا، ودماؤنا مكوَّنةٌ من أديم الأرض ومن تربتها".

بالنظر إلى رواية "قيامة البتول الأخيرة"؛ فإننا تعيش أجواء الحارة السورية، وعلى وجه التخصيص الحارة الحلبية، بما يغلِّفها من تفرد وروعة؛ فهذا الحاج عبد القادر الهلالي كبير الحارة والأب الروحي لأهلها، صوت الحق والشهامة، وهذا ابنه يحيى خريج الكلية الشرعية، وعبد السلام مصطفى -البطل- النحات قليل الحظ، وإيلين ابنة آكوب الخياط الأرمني، وأبراهام فارحي اليهودي الخبيث، وابنته ليزا، كلهم تحتويهم الحارة الحلبية، يعيشون في حارة البندرة (حارة اليهود القديمة).

والمكان في الرواية لا يظهر عشوائيًا، إنما يختاره الراوي بحس فني وعناية أدبية؛ فنرى أن الرواية انقسمت أفضيتها إلى أماكن مغلقة وأخرى مفتوحة، ولكلٍّ دلالتها المتفردة.

أولًا: الأماكن المغلقة

بدأت الرواية من الكهف/القبو، وما يعكسه من خوف ورعب؛ فظروف الحرب تجبر المرء على التقزُّم والعزلة، وتمنعه من الحياة الطبيعية في أجواء السعة والدفء والمحبة؛ فهذا عبد السلام يحاول نحت تمثال الحرية، يحلم بالخروج من مستنقع الحرب، والتحرر من تطاحن الحرب الأهلية.

يظل حلمه مؤجلًا تحت وطأة الواقع النازف، والأشلاء المبعثرة وطلقات المدفعية والقصف الرجيم، لا يخرج من كهفه إلا قليلًا، وخروجه مؤقت وفيه خطر على حياته، وليس وحده في ذلك؛ فالخطر يتهدد حياة الجميع، والتحركات تحت أعين لم تشهدها الحارة من قبل!

ومع أن باشلار يرى في البيت جسدًا وروحًا ويعتبره عالم الإنسان الأول، وأنه يتيح للمرء أن يحلم، لكن أيّ حلم في كهف عبد السلام في أركان قبوه "المكتظ بمنحوتاته وأيقوناته.. تنير الشموع المتوزعة في الزوايا عالمه المحطَّم، المقيَّد، ومنابع أحلامه الجافة هنا، في وكر أيامه يخفي مدافن خيباته وانكساراته".

أينه الأمان والهدوء؟ وكيف له أن يحيا حياةً طبيعيةً في وقتٍ "يرتَّجُ كلُّ شيءٍ في هذا المكان الصغير، ثمة انفجارٌ جديد، أشبه ما يكون بزلزال عنيف، يهزُّرأركان المدينة العتيقة، وسراديبها السرية". في مكان آخر مغلق، يقتحم أذناب الفساد وجلاوزته منزل الأستاذ "أبو النصر"، يتناوبون على ابنته البتول، يغتصبونها أمام والدها بعدما ربطوه بحبل بلاستيكي محكم من يديه وقدميه؛ فيُفجعُ الرجل في شرفه رغمًا عنه وعن ابنته!

في مكانٍ مغلقٍ ثالث، داخل دارٍ مهجورةٍ مهدَّمة، يتخفى الجقجوق بعيدًا عن الأعين والأسماع، ينفرد الجقجوق بجثة امرأة قد فارقت الحياة، قضت شظية على حياتها، لكن موتها لم يقضِ على أمل الجقوق في معاشرتها جنسيًا؛ فهي لن تصرخ في وجهه المقرف، ولن تتأفف من عرجته المشؤومة، ويثق أن الجثث لا تتكلم، ما يضاعف إصراره على متابعة بغيه وإدمان النيكروفيليا.

وها هو مكانٌ مغلقٌ رابع، تحتجز هنودة "القطط" أختها الثريا العمياء، وشعبًا من القطط تحت الإقامة الجبرية، تتحكم في مصائرهم بطرائق شتى، وأكبر ظنها أنهم لن يفكروا في الثورة عليها أو رفع راية العصيان، لكنها تتفسخ آخر الأمر، تفسخًا لا يقل عن تفسُّخ الأنظمة الديكتاتورية، وتنهار إمبراطوريتها وينتشر ريح نتنها القبيح إيذانًا برحيل حكمٍ غير مأسوفٍ عليه.

في مكانٍ مشبوه مغلق خامس، نرصد في الفيلا الوردية حركة مشبوهة، ومخططات أخوة الحليب تلك الجماعة التي تتخذ المؤامرات سبيلًا لتقويض أسس الدول؛ فشعارها "افعل ما شئت، يكن هذا أصل القانون كلِّه"، ويقسمون على لسان ليزا "حليبنا شرف.. شرفنا هو الولاء التام"، وهذا الولاء يتصل في نهاية المطاف بالماسونية والصهيونية المخرِّبة، ورقصات العرافة "خاتون" الساحرة في الفيلا الوردية، وارتباطها بكبار رجالات المدينة وعِمالتها لأخوة الحليب.

وفي سياق متصل، كانت الغرفة رقم 202 بفندق "بارون" الشهير عالميًا، غرفة شهدت نزوة صبيانية قصمت ظهر عبد السلام؛ فالغرفة تقع بين الغرفة 201 التي نام فيها أتاتورك مؤسس الدولة التركية، والجنرال الفرنسي ديغول، أما الغرفة 203 فشهدت أركانها كتابة أجاثا كريستي رائعتها "قطار الشرق السريع"، وكانت كريستي برفقة زوجها عالم الآثار ماكس مالوان، لكن الحظ الأليم يلقي بعبد السلام إلى الغرفة 202، الغرفة نفسها التي كانت مقرًا شبه دائم للجاسوس الإنكليزي "لورانس العرب".

وتشهد الغرفة نزوة جنسية، ولذة مؤقتة لم تزد مدتها عن دقائق أو سويعات؛ ليستفيق من سكرته بعد مدة، ويعلم أنها لم تكن امرأة عادية ولا علاقة عابرة، بل كان أمرًا مدبرًا من فرقه إلى قدمه، وأنَّ السائحة الكندية سوزانا ليست سوى يهودية حلبية، تعيش الآن في كندا، وأنها من أخوة الحليب، والعلاقة الجنسية التي خدرت أوصاله قليلًا، ونشوة هزة الجماع تلك لم تكن إلا مقدمة لإجماد جذوة وطنيته؛ لتنقلب النشوة إلى ماضٍ يتهدد حياته الاجتماعية ونزاهته الوطنية.