قوى ناعمة رهن الإرادة السياسية

قوى ناعمة رهن الإرادة السياسية

30 يناير 2020

(أيمن يسري)

+ الخط -
أول من أطلق مصطلح القوى الناعمة هو محمد حسنين هيكل. يشير فيه إلى خطورة هذه القوى، وتأثيرها العميق على الوعي (واللاوعي) الجمعي للمجتمعات. وتحدّث عن كيفية استثمارها الاستثمار الأمثل لصالح الدولة، وأثرها الكبير في الحفاظ على مصالحها العليا، وأكد كيفية تطويع هذه القوى للتأثير؛ ليس محليا فقط، وإنما إقليميا أيضا. والمقصود بالقوة الناعمة الفنون السمعية البصرية، من سينما وتلفزيون ومسرح وإذاعة والغناء.. إلى آخره. وبالتبعية طبعا نجوم هذه الفنون ونجماتها، حيث إنهم يمثلون الأعمدة الأساسية لتنفيذ آليات التأثير المطلوب على الناس. وفي مصر، استوعب نظام الرئيس جمال عبد الناصر هذا المفهوم وتبنّاه، ورسّخ أعمدته، ودعمها بكل الإمكانات. ومثالا استطاع نظام عبد الناصر أن يدعم الحركة الغنائية المصرية؛ لكي تصدح بأفكاره الاشتراكية، وتدعم مجتمعه المنشود، لكي يتحرّك أكثر، وهو في توق للتحرّر والتخلص من الاستعمار والرجعية. وفي ظل ذلك الدعم، شدا أساطين الفن العربي، أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ بأجمل الأغاني والألحان التي ألهبت حماس الجماهير في كل العالم العربي من المحيط إلى الخليج. وفي ظل ذلك الدعم أيضا؛ قدمت السينما المصرية مجموعة متكاملة متضافرة من الفنانين الذين جاؤوا من خلفيةٍ عسكريةٍ أو بوليسية، فكان الأديب يوسف السباعي ، والمخرج عزالدين ذو الفقار والنجم أحمد مظهر من الضباط الأحرار. وقدّم هؤلاء فيلمهم المُبشر بأفكار الثورة وأحلامها "رُدّ قلبي"، وكان فيه صلاح ذو الفقار، شقيق المخرج عز الدين ذو الفقار (وهو خريج كلية الشرطة)، في مجال الثقافة بوجه عام، وكان الضابط ثروت عكاشة وزيرا لثقافة مصر.
نجح النظام وقتذاك في السيطرة على عقول المصريين ووجدانهم، وعلى عقل الأمة العربية 
ووجدانها، فقد انتشرت اللهجة المصرية، بفضل الأعمال الفنية التي غزت العالم العربي. وأحب الناس في كل مكان الفن المصري، والفنانين المصريين الذين حملت أعمال كثيرين منهم رؤى ثورة 23 يوليو. ولعل هزيمة 1967 الموجعة التي هزّت الإنسان العربي في كل مكان، وهزت الثقة، لأول مرة، في النظام المصري، والأكثر من ذلك في القوة العسكرية المصرية التي كانت تُعتبر خطاً دفاعياً موسعاً ضد أي خطر يهدّد الأمة العربية بأسرها. لقد عانى عبد الناصر شخصياً من مرارات الهزيمة داخلياً وخارجياً. وأمام هذه اللحظة الحرجة، لم يكن أمامه سوى الاستعانة بالقوى الناعمة، لكي تؤثر بشكل غير مباشر في جموع الجماهير. وقد اختار لتنفيذ ذلك الهدف آليتين: السخرية، بوصف الناس مُحبّة للضحك والهزء بأحزانها. والجنس، حيث قدّمت الأعمال الفنية جرأة لم تكن معهودة. ظهرت الأعمال الفنية وقتها بشكلٍ تجاوز فيه معظم الأعمال التي قُدمت به من قبل. وأمثلةً، قدمت الإذاعة المصرية المسلسل الكوميدي "شنبو في المصيدة"، تأليف الساخر أحمد بهجت، وبطولة الثنائي فؤاد المهندس وشويكار، وكان معهما يوسف وهبي. وقتها، كانت هذه الأسماء كفيلةً بسحر الجماهير وشد انتباههم إلى أقصى درجة؛ وبالتالي تسريب المعنى المطلوب بشكل غير مباشر؛ وهو التعاطف مع عبد الناصر عن طريق السخرية، "فشنبو في المصيدة" هي ورطة عبد الناصر في الهزيمة، ولكنها تحمل معنى مبطناً للأحداث التي تقدّمها. وهذا نوع من الذكاء السياسي، لأن الجمهور يضحك ولا يحسّ بها بوعيه، بل يتسرّب إلى لاوعيه ويستقر فيه. نجح ذلك المسلسل نجاحاً باهراً، وتحوّل إلى فيلم سينمائي، نجح أيضاً. وأعقبه مسلسل إذاعي آخر، "العتبة جزاز والسلم نيلو بنيلو" نفّذه الفنانون أنفسهم، ونجح نجاحاً كبيراً، وحوّل إلى فيلم سينمائي. وعلى الرغم من تيمته البسيطة؛ إلا أن العمل يكشف أن هناك قوى خارجية تهدّد أمان مصر، وهي تنشر جواسيسها وتهدّد سلامة المصريين. الرسالة واضحة، خصوصا أن هذا العمل قُدّم في السنوات التي تلت الهزيمة. وكأن لسان حال الحكم يوجه رسالة مبطنة إلى الجماهير، تدعوها إلى عدم تصديق أي أطراف أخرى؛ لأن هذا يكون بمثابة خيانة وعمالة، وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولعل كلمات أغنية النهاية في الفيلم توحي بجزء من هذا المعنى، "السلم نايلو في نايلو، والعتبة جزاز، واللي يخون ناسو وأهله يستاهل الحرق بجاز".
نجح نظام عبد الناصر في تخفيف حدّة مرارة الهزيمة، إلى أن انتقلنا إلى فترة الرئيس أنور السادات وثورة 15 مايو، كما سماها، حيث بدأ القضاء على مراكز القوى للعهد السابق. ووقف التعذيب الوحشي في السجون المصرية التي كانت في عهد عبد الناصر، وذلك بأمر من السادات، ثم جاء نصر حرب أكتوبر 1973، والذي أعاد الثقة نسبياً في الشارع العربي بالقوات المصرية المسلحة، والأهم الثقة بأنور السادات رئيسا للجمهورية. وقد استعان السادات، ليرسخ دعائم حكمه، بالسينما بشكل أساسي، لكي يحقق هدفين عامين: تعرية نظام جمال عبد الناصر، والكشف عما
فيه من عوار، وبالتالي ضرب الحلم الاشتراكي في مقتل، لكي يُسّهل التحول الرأسمالي فيما بعد، وما سيتبعه من انفتاح اقتصادي - غير مدروس. تمجيد حرب 6 أكتوبر. كما يقول لسان حاله "الهزيمة مقابلها النصر"، الحرية والانفتاح مقابل الانغلاق. وكانت أفلام تُعدُ، وهي من النوع الذي يُدين المرحلة الناصرية، مُبرزة قمع تلك المرحلة حقوق الإنسان، فكان فيلم "الكرنك" بطولة سعاد حسني ونور الشريف، عن قصة نجيب محفوظ وإخراج علي بدرخان وسيناريو وحوار ممدوح الليثي. وصَرّح بدرخان في مداخلة تلفزيونية بأن الشاعر صلاح جاهين هو الذي صاغ سيناريو الفيلم بالكامل. وقد تعرّض الفيلم لتجاوزات المخابرات العامة المصرية إبّان كان رئيسها صلاح نصر الذي رفع قضية على الفيلم، بدعوى تشويه العهد السابق. نجح الفيلم نجاحاً باهراً، وتبعته أفلام، أُطلق عليها أفلام "مراكز القوى". وبالتوازي، أنتجت السينما المصرية أفلاما تُجسّد نصر أكتوبر، في مقدمتها "الرصاصة لا تزال في جيبي"، بطولة محمود ياسين ونجوى إبراهيم، قصة إحسان عبد القدوس وإخراج حسام الدين مصطفى وإنتاج رمسيس نجيب.
وبالتوازي أيضا، مُنعت كل الأغاني المُبشرة بالاشتراكية والحلم العربي، وتحديدا أغاني عبد الحليم ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم. كما تم السماح لفناناتٍ كنّ ممنوعاتٍ من الظهور في الحقبة الناصرية، بل ممنوع دخولهن البلاد، كوردة الجزائرية. وأيضا أفرج السادات عن قطبين، من الإقامة الجبرية، محمد نجيب، وكان أول رئيس لجمهورية مصر العربية، ومن السجن مصطفى أمين، المتهم بقضية تجسّس. واستطاع السادات، بالإجراءات التي قام بها أن يُغّير الدفة لصالحه. ثم جاء عهد الرئيس حسني مبارك، لكي يوظف القوى الناعمة لصالح حكمه، ولصالح بقائه رئيسا أطول فترة ممكنة، فأعاد الاعتبار لحقبة عبد الناصر وأعمالها الفنية. وقد أخفق نظامه كثيراً وكسب كثيراً؛ في تطويع العقل الجمعي لما يريد، وبالطريقة التي يريدها. كان المهندس الرئيسي في هذه المرحلة وزير الإعلام، صفوت الشريف، وهو ضابط مخابرات سابق في الحقبة
 الناصرية؛ وكان ممن حوكموا بعد هزيمة 67 في قضية انحراف المخابرات. ثم جاءت فترة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ليعيد نظامه، وبشكل محدّد وواضح، منظومة إعلام عبد الناصر، بطريقةٍ أكثر صراحة ووضوحاً وحزماً. كانت الطريقة ولا تزال هي رصد كل الإمكانات لإعلان الصوت الواحد، والتحكم المُطبق بالإنتاج السينمائي، وكل وسائل التعبير البصرية والسمعية، بدءا من الإنتاج إلى التوزيع، مُتدخلاً ومُتحكماً بكل التفاصيل؛ ليظهر العمل الفني، في النهاية، معادلاً موضوعياً لرأي النظام وقادته. وما يُراد التأثير به في المنحى الاجتماعي والسياسي، مثل منع أي تناول سلبي لرجال الشرطة، وعدم التطرّق أو التعرّض للشأن العسكري؛ إلا كما يتراءى لأصحاب القرار من اهتمام بالمجلس العسكري أو الأمني، فالموافقة تأتي من القيادات العليا القابضة على زمام الأمور بشكل مطلق.
وهكذا كانت القوى الناعمة في مصر تتنوع وتتلون، حسب رغبة الإرادة السياسية، وفي ما تطمح إليه من أهداف، وما تريده من تصدير رسائل إلى عقول الناس ووجدانهم في المحيطين، المصري والعربي. ولكن تُرى، هل سيجيء اليوم الذي تنطلق فيه القوى الناعمة لتكون معنية بالإبداع المستقل جمالياً وإنسانياً، من دون التقيد بالإرادة السياسية، ضامنة لوجود هذه القوى ورهانا لاستمرارها؟ .. سننتظر ونرى.
A3DF164F-0093-4643-AB16-009309265964
A3DF164F-0093-4643-AB16-009309265964
هشام عبد الحميد

ممثل مصري، أدوار بطولة في أفلام ومسرحيات ومسلسلات، وعدة جوائز

هشام عبد الحميد