Skip to main content
قول في ما ينتظر الحراك الجزائري
محمد سي بشير
يطلّ علينا شهر سبتمبر/ أيلول، وقد بلغ الحراك الجزائري، فيه، شهره السابع، حاملا مسلّمات ومتغيرات طرأت على الساحة السياسية، وهي ذاتها التي ستعمل على الفصل في ما سيؤول إليه، في الأشهر القليلة المقبلة، سواء سارت الأمور إلى الانتخابات الرّئاسية أم بقيت مغلّبة لمسار الانسداد. وقد كانت المسلّمات، وهي كثيرة، وما تزال، تبرز، من أسبوع إلى آخر، لعلّ ما يحتل الصدارة فيها أن التغيير أصبح حقيقة لا مفرّ من القبول به، لأنه واقع، ليس للنظام السياسي إلا أن يتعامل معه على أنّه مسلّمة لا مناص من الحوار على أساسها لإحقاقها، طال الزمن أم قصُر. ويجرّ التّغيير معه سلوكات سياسية، وأخرى قضائية/ جنائية، لا يمكن إلا أن تشكل، في مستقبل الأيام والأشهر، بل والسنوات المقبلة، محور عمل النظام السياسي على أساس أنّها ممّا لا يُمكن أن يُعاد إنتاجه، بمعنى أن النظام السياسي المقبل للجزائر الجديدة سيعمل على وضع منظومة قانونية تحول دون إمكانية و/ أو احتمال تجدّد وضع النّهب للمال العام، أو الاستئثار بالحكم إلى درجة تكوين "عصابة" أو الحكم بمنطق "القوى غير الدستورية"، إضافة إلى وضع أسس الوصول إلى الحكم أو العزل منه، وفق منظومة المحاسبة والتداول على السلطة في إطار من الشفافية، وارتكازا على البرامج والكفاءة في التسيير لشؤون السياسة العامة.
من المسلّمات الأخرى التي تُستفاد من الحراك أن النّخبة السياسية التي تحالفت مع العصابة، أو عملت في ظلّها، لن تتمكّن من إقناع الجزائريين بأنّها كانت لا تعلم بما يجري، أو أنها لم تشارك فيما جرى، كما لا يمكن أن تُؤتمن، مستقبلا، على الشأن العام، ما يعني أنها لن تكون 
ضمن منظومة الحكم. وقد عبّر الحراك، منذ أيامه الأولى، عن رفضه رموز النظام التي زيّنت وجه العصابة، وعملت على إدامة حكمها عقدين، بل وحاولت إدامة حكم رئيسٍ ظل الجزائريون يؤكدون أنه غائب عن الوعي، أو أنه لا يحكم، منذ إصابته بمرض عضال في 2013، أي أنّ تلك الرموز أوجدت ظروف حكم مختطف لتصبح عصابة، بحكم نهبها اللامتناهي المال العام، وقوى غير دستورية، بحكم اختطافها الحكم، أو ما اصطُلح على توصيفها في الجزائر سرّاق الأختام الرّسمية.
هناك مسلّمة أخرى يجب التّأكيد عليها، أنّ الانسداد أزمة سياسية، ولذلك، لا تُعالج إلا بأدوات سياسية، بمعنى أنّ الحوار/ التفاوض الذي أصبح حيويا لم ينطلق بعد، لأن ظروف تكوين "لجنة الحوار والوساطة" لم تأخذ في حسبانها بعض الاعتبارات المفضية إلى التنازلات، من الجانبين، ثمّ الذهاب إلى بوصلة الانتخابات مع ترحيل إشكاليات: المرحلة الانتقالية، المجلس التأسيسي، تعديل الدستور، وضع تصوّر للنظام السياسي المقبل، إضافة إلى تصور مشروع مكانة الجزائر في الجوار (المغرب العربي) والإقليم ( شمالا في غرب المتوسط وجنوبا نحو المنطقة الساحلية - الصّحراوية)، والخروج من منظومة الريع النفطي إلى ما بعد الرّئاسيات المقبلة. كما لم تأخذ تلك اللّجنة مطالب إجراءات التّهدئة مدخلا للحوار، ولم تركّز على مضمون تشكيلتها، بعد أن أدخلت بعضا من الوجوه السياسية التي لا يمكن أن تكون معنية بالحوار، أو ممثّلة لمخارج أكيدة له. من ناحية ثالثة، لم تركّز اللجنة على إجراءات التهدئة التي لا يمكن الذهاب، بدونها، إلى حوار/ تفاوض جدي وحقيقي، كما لم تؤكد على 
سلطاتها، أو ما يمكن أن تصل إليه من مخارج، ليعلم الجميع هل الحوار مسار حقيقي، وأنه من سيضع الجميع على مسافة واحدة من الأدوات والمقاربات التي من شأنها حل معضلة الانسداد.
إلى جانب تلك المسلّمات، هناك متغيرات فرضت نفسها، ويمكن التعامل معها على أنها قابلة للأخذ والردّ والمحاججة بشأنها، خصوصا أن البلاد ظلّت صامتة، سياسيا وحراكيا، مدّة فاقت العقدين، وصلت فيها الأمور إلى حافّة الهاوية، إن لم تكن قد جاوزتها أو على قاب قوسين أو أقرب من بلوغ قاعها.
من تلك المتغيّرات أن ثمّة اختلافاتٍ داخل المجتمع، تحمل طبيعة أيديولوجية وفكرية، بل ومناطقية أيضا، يجب أخذها في عين الاعتبار، والعمل معها على أنّها عوامل تنوّع وثراء/ إثراء للنسيج الاجتماعي. ويمكن أن تتضمّنه الجزائر، على غرار كل المجتمعات، وهي عوامل ترسمها الأوضاع الاجتماعية وتعمّقها الاختلافات الاجتماعية في بلدٍ بحجم قارّة تعترف بالأصل الأمازيغي لجميع ساكنتها مع اختلاف اللّسان، من جهة أخرى. ولكن مع ثوابت تجمّع الجزائريين تحت لواء انتماء روحي واحد، راية وطنية واحدة وذاكرة وطنية تختزن الأفراح والمآسي بصفة واحدة، إضافة إلى غرس المصاهرة والعلاقات الاجتماعية العميقة، بين مختلف ساكنة البلاد، عنصر الانسجام الاجتماعي الواقي من كل مناورات أو تلاعبات، سواء كانت للّعب على وتر تلك الاختلافات، أو صناعة وعي جمعي بعيد عن تلك المتغيّرات.
نصل إلى المتغيّر المتّصل بالمقاربات الموصلة إلى الخروج من الانسداد، والتي هي أساس الحوار/ التّفاوض بقصد التوافق، وهي، للتذكر، قريبة من ثلاثين مبادرة، تحمل اختلافاتٍ لكنها تتفق، جميعها، على أن بوصلة الرئاسيات هي الموصلة إلى الحل، ولكن مع وجود عناصر يجب التوافق بشأنها، متعلقة بالظروف التي ستجري في ظلّها تلك الانتخابات، ضمانا لخروج رئيس شرعي، سيعمل على التّواصل مع النّخب السياسية والاجتماعية، لتفعيل المشاريع السياسية التي تمّ ترحيلها، تجنبا لمسألة المرحلة الانتقالية مجسّدا، أول مرة منذ الاستقلال، جزائر بيان 1954.
لا يمكن الانتهاء من عنصر المتغيرات من دون الإشارة إلى جملة من العناصر ذات الصلة بالهوية، والتي لا تمس المسألة الوطنية في شيء، على غرار الراية الأمازيغية التي يجب أن تُدرج ضمن إجرائي الترسيم الذي قامت به السلطة للغة الأمازيغية، لتكون اللغة الرسمية الثانية في البلاد، إلى جانب العربية، والاحتفال ببداية العام الأمازيغي في 12 يناير/ كانون الثاني من كل عام، بصفته، منذ العام 2019، يوما وطنيا. يؤدي هذا، حتما، إلى تجاوز قضية النّشطاء المسجونين، من ناحية، ورفع الحرج عن تلك الراية الهوياتية، من ناحية أخرى، إضافة إلى الرفع من شأن العلم الوطني، ليكون العلم الوحيد الممثل للبلاد، وهي مسألة مجمع بشأنها بين كل الجزائريين.
المسألة الأخرى ضمن المتغيرات ذات صلة بمن يريد إحياء تلك المفاصلات المجتمعية التي 
كانت من مسببات العشرية السوداء، على غرار بيانات تُنشر، هنا وهناك، لمن ينصّبون أنفسهم مثقّفين، وهم من أقلية ملفوظة من المجتمع ومعروفون بعدائهم للبلاد وثوابتها. ولعل الأمر يتعلق، للذكر، هنا، بالمشروع المجتمعي الذي أكل عليه الدهر وشرب، كون الجزائر بلاد مسلمة دينا، مالكية المذهب، أمازيغية الأصول، ثنائية اللغات والألسن، متأرجحة بين العربية والأمازيغية. ولا تحتاج، الآن، إلاّ لمشروع الانبعاث والعروج الحضاريين مع جوارنا الطبيعي، شرقا مع المغرب الأدنى، وغربا مع المغرب الأقصى، مع توسيع الدائرة إلى ليبيا وموريتانيا، امتداد الجزائر الطبيعي جغرافيا وتاريخيا.
وتجمع بين تلك المسلّمات والمتغيّرات بوصلة مشروع الجزائر، المرغوبة التي نتمنّاها ونأملها، قوّة ناشئة في غرب المتوسط وقاطرة للانبعاث المغاربي، تصر على مكانة القائدة للإقليم والمتصرّفة، حصريا، رفقة جوارنا، في شؤونه دونما إمكانية أو احتمالٍ لتدخّل ما من قوى من خارج الإقليم، خصوصا القوة الاستعمارية الاستيطانية السّابقة، فرنسا. جزائر تعمل، في حدود عقدين أو ثلاثة، على الوصول إلى مكانة القوة الإقليمية اقتصاديا ومتصرفة/ متنفّذة عسكريا وأمنيا في شؤون المنطقة (غرب المتوسط والفضاء الساحلي - الصحراوي) واقفة، الند للند، أمام القوى الكبرى والمتوسطة المعنيـّة والمهتمّة بشؤون الإقليم والمنطقة.
ويزيّن ذلك، كلُّه، ويكون سنامُه، منظومة حقوق وكرامة لمن يشكّل محور هذا المشروع ومن سيبنيه ويقطف ثماره، المواطن الجزائري الذي لن يكون إلا محترما في إنسانيته، ولا يعامل إلاّ وفق كرامته، ليخرج ما في جعبته من إبداع وابتكار، ويعيش بهامته شامخا أينما حل وارتحل، تفتح له الأبواب، وتصبح كوابيس الموت في سفن العار أو في سجون العذاب ذكريات من ماضٍ سحيق ذهب وولى، إلى غير رجعة، وتُرفع تماثيل محسن فكري، محمد البوعزيزي وعمر ياسف، أيقونات التّضحية من أجل المغاربي الكريم، القوي، المغاربي المواطن، وإنّ غدا لناظره لقريب.