قولٌ في تركي الحَمَد

قولٌ في تركي الحَمَد

07 يوليو 2018
+ الخط -
منذ صُعُود نجم محمد بن سلمان في المملكة العربيّة السعوديّة، وتمكّنه تدريجيًا من زمام الدولة، ومن فرض بعض سياساته، تتوالد ظواهر كثيرة داخل المجتمع، وتصبح مدار نقاشاتٍ وجدل كثير سعوديًا وعربيًا، ومنها مواقفُ المثقّف السعودي تركي الحَمَد.
لا أحبّذ عادةً نقاش اسمٍ بعينه، وأفضل الحديث في "الموضوعات" بالعُمُوم لأسباب كثيرة، ولكن حالة تركي الحَمَد تصلح استثناءً لسببين:
الأول، أن شريحة المثقّفين المؤثرين في السعوديّة ضئيلة. ولهذا الأمر أسباب موضوعيّة، تخص بناء الدولة وطبيعة سُلطتها، ولا مجال في المقال لنقاشها، وعلينا هنا أن نميّز المثقفين من الأدباء والخبراء والأكاديميين، وهؤلاء كُثُر في السعوديّة، بل وربما أكثر من نظرائهم في أغلب الدول العربيّة، ونميّزهم كذلك من كتاب الأجهزة الأمنيّة ومطبلي النظام في كل عهوده، وبالتالي يصعُب على المرء الحديث عن "المثقّف السعودي" بتعميم. والثاني أن تركي الحَمَد رمزٌ ممتاز لقطاعٍ كامل من المثقفين العرب، ولهذا لم نأخذ حالة عبد الله الغذامي مثلًا، مع أنه يقع في القطاع نفسه، لكنه ليس حالة نموذجيّة. وبالتالي، يقود نقاش حالته، بالضرورة، إلى نقاش حالةٍ شائعة.
تركي الحمد مثقّف، أيًا كان مفهوم "المثقّف" الذي في أذهاننا. وكان منذ التسعينيّات مواكبًا، بكتبه ومقالاته لأحداث العالم العربي، ومواقفه المتلاحقة (وبعضها بعيد النظر) من الثورات العربيّة عام 2011 مثال على ذلك. بالإضافة إلى إنتاجه الأدبي، وثلاثيّته "أطياف الأزقة المهجورة" أجمل الروايات العربيّة وأهمها في الثلاثين سنة الماضية.
لا يحمل وصف المثقّف هنا أي حُكم معياري، أو تقييم لإنتاجه ووجهات نظره؛ فكثير من 
مقاربات الحمد، في التسعينيّات وما بعدها، للواقع السياسي - الاجتماعي العربي، كانت تنفيسًا محبطًا أخذ شكلًا ثقافويًا، لكنها، على الرغم من الموقف منها، تبقى مقاربات "نقدية" أصدرها كاتب متمكّن، ومهتم بالشأن العام، أيْ مثقف. هنا يأتي السؤال: كيف تحوّل تركي الحمد إذًا إلى ما هو عليه اليوم؟
ثمّة طبعًا التفسيرات القادحة السهلة، مثل التقرّب من السلطة لجني مصالح شخصيّة، وهذا تفسير غير مقنع لسلوك شخصٍ لم يمالئ من قبل النظام السياسي بوقاحة، كما فعل آخرون، وإذا كان تقرّب لمصالح شخصيّة، فلماذا الآن؟ وثمّة التفسيرات الجهويّة، وهي على الرغم من تهافتها في حالة الحمد، تشير كذلك إلى مشكلةٍ جهويّةٍ مُزمنة داخل السعوديّة، ولها جذور تاريخيّة، وقام النظام السعودي طوال عقود بتكريس هذا الإشكال عمدا، وعبر سياسات كارثيّة.
التفسير الذي يراه هذا المقال مقنعًا هو ما يمكن تسميتها متلازمة الليبرالي العربي. ... بعد الثورات العربيّة، ظهرت مواقف من مثقفين ليبراليين عرب، في بيئاتٍ مختلفة، تتشابه حتى تكاد تصبح نمطًا: بمجرّد أن يعتقد هذا المثقّف بأن النظام (أو أي طرف سياسي) سينفّذ فكرة يؤمن بها أو سيقضي على أعدائه، يقف معه حتى النهاية، ويقدم أشياء كثيرة قربانًا على مذبح النظام: ليس فقط مواقفه السياسيّة، فهذا فيه أخذٌ ورد، بل وقيمه الليبراليّة وانحيازاته الأخلاقيّة، وكل ما ظل سنوات يجادل ويدافع عنه!
تركي الحَمَد "مؤمن" بأن ابن سلمان يقود الإصلاح، وبأنه سيُحرر المجتمع من تخلّف علماء الوهابيّة ومن أمراء الأسرة الحاكمة وامتهانهم للناس. وبن سلمان طبعًا لا يقود إصلاحًا، بل يعيد تركيب صيغة السلطة فحسب، والأمراء سيبقون، كما أن كبار علماء الوهابيّة كانوا منذ معركة السبلة عام 1929 طبقة مُلحقة بالنظام، وتمت بَقرَطتُها مع الوقت، أي أن "سطوتهم" على المجتمع قرار سياسي، وإزالتها كانت منذ عقود ممكنة بقرار سياسي. ولكن، لنفترض مع الحَمَد أن ما يعتقده صحيح، لماذا على المرء التماهي مع خطاب السلطة، حين تقوم بـ "الإصلاح"؟ لماذا لا يأخذ مسافةً نقديّة منها، ويؤيد سياساتها الإصلاحيّة؟
ما يميز هذا النوع من المثقفين الليبراليين أنهم يفقدون كل حواسّهم النقديّة والأخلاقيّة في مفاصل كهذه؛ فالحمد مثلًا يستطيع أن يؤيد سياسة ابن سلمان تجاه الحريّات الخاصّة بالنساء، مع عدم تبريره أمورا لا أخلاقيّة، مثل التطبيع مع إسرائيل، أو جرائم حرب اليمن، لكنه لا
يفعل، بل يسير وراء النظام حتى في الإسفاف (خطاب النظام وإعلامه تجاه قطر وتركيا مثلًا) كما فعل نظراؤه في مصر، حين وقفوا مع الجيش ومذابحه عام 2013، وكما يفعل بعض المثقفين المعارضين لنظام الأسد من تبرير لجرائم فصائل جهاديّة أصوليّة متطرّفة، وكما فعل مثقفون يمنيّون مع الحركة الحوثيّة ومع السعوديّة، وغيرها من الأمثلة المحزنة والمخزية.
الإشكال هنا أن تبرير هذه السياسات الإجراميّة هو أيضًا لا أخلاقي في بلاغته، وليس فقط في أصله؛ فالموقف من التطبيع مع إسرائيل يمكن للحمد دعمه بالقول إنه خطأ أخلاقي، لكنه أمر واقع، وما في اليد حيلة، لكنه لا يفعل، بل يذهب نحو الافتراء والتزوير وإعادة تدوير خطاب الأنظمة العربيّة التعيس، لكي يُثَلِّم الأصل الأخلاقي للقضية الفلسطينية، ويحولها إلى معاناة إنسانية فحسب، مدخلا مريحا لتبرير التطبيع ودعم إسرائيل عمليًا في معركتها ضد الفلسطينيين.
حسنًا،: لماذا يتصرّفون بهذه الطريقة، لماذا لا يتخذون مواقف مركّبة؟ هي ثلاثة أسباب: الأول أن معارك كثيرة للمثقفين العرب يعتورها الزيف وهشاشة الأساس الأخلاقي، وتلعب فيها عوامل "الأنا" دورًا أكبر مما يظهر لنا، ولهذا يستبيح السياسي/ المثقف كل شيء ضد خصومه؛ فهو ينظر إلى الخلاف باعتباره مسألة شخصيّة، لا يحكمها تصوّر أخلاقي. الثاني أن أغلبهم غير ديمقراطيين، على الرغم من كل ثرثرتهم عن الديمقراطيّة، وبالتالي فالمسألة عنده، حين تأتي اللحظة الحاسمة، ليست مسألة مشروع ديمقراطي ومواطنة، بل كلها مختزلة في موقفٍ من قضيّة هنا، أو سياسةٍ في شأنٍ ما هناك. الثالث، بخصوص الليبرالي تحديدًا، اختزاله الليبراليّة في الحُريّات الخاصة، بينما سجنُ الناس بالآلاف، وتعذيبهم، واللعب بالمال العام وتبديد ثروات البلد وسحق الفقراء، وإهانة كل من يفتح فمه ليتكلم، وتعميم النفاق والكذب والضحالة، أمور مُحزنة كما يرى هذا القطاع من الليبراليين، ولكن يمكن التعايش معها، ويوهمون أنفسهم بأن "المصلح" سيلتفت إليها لاحقًا.. ولكنه لا يفعل، بل "يلتفت" إليهم، ويستخدمهم بسهولة، بسبب تماهيهم التام معه منذ البداية، ورقةَ تفاوضٍ مع القوى المحافظة، حين تستتب له الأمور.
8AC1ED65-78A2-4712-AD9B-FBCD829DA394
أيمن نبيل

كاتب يمني، من مواليد 1991، يقيم في ألمانيا لدراسة الفيزياء النظرية. نشر عدة مقالات في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون، في عدة صحف يمنية.