تمر الدقائق ثقيلة عليهم (الأناضول)
يقفُ رجا (11 عاماً) على الأريكة البنية اللون، يرفع يده عالياً لأعلى نقطة قد تصل إليها. يقول: "هذا كان طول صديقي الذي استشهد أول من أمس". بهذه الكلمات البسيطة يتحدث عن موت صديق هو طفل أيضاً. لكن الحدث عادي. صار الموتُ هنا روتينياً بعدما فقد أهل المخيم أكثر من 2700 شهيد منذ بدء الحصار وحتى دخول تنظيم الدول الإسلامية "داعش" أخيراً. تعلّق والدته: "لم نشهد أياماً كهذه.. مخيّم اليرموك قطعة من جهنم".
تمرّ الدقائق ثقيلة على رجا ووالدته. فقدا معيل الأسرة بعدما سقطت عليه قذيفة في العام الماضي. عجزت العائلة عن الخروج من المخيم منذ تأزّم الوضع فيه قبل ثلاث سنوات، وتحديداً بعدما قصفت قوات النظام جامع عبدالقادر الحسيني. في ذلك اليوم، استشهد نحو 100 شخص، ونزح مليون ونصف المليون، تزامناً مع دخول المعارضة المسلحة. لكن رفضت العائلة الخروج بسبب الفقر وغلاء المعيشة وارتفاع بدل الإيجارات في العاصمة.
لم يبرحا المنزل منذ بدء هجمات داعش وقصف النظام. حين يخافان، يلجآن إلى سجادة الصلاة. يجلسان على الأرض فيشعران بأنهما بين يدي الله. تقول أم رجا: "ليس لنا سواه". لا ملامح غير الخوف على وجوه الأهالي في المخيم. ينتظرون مصيراً ربما يكون مختلفاً هذه المرة. أسباب الموت لم تعد تقتصر على التجويع والحصار والفلتان الأمني.
ما يزيد الطين بلة هو سيطرة "داعش" على المخيم، بالإضافة إلى تصعيد النظام حملته ضده، وبدء مرحلة جديدة من القصف المكثف بالبراميل المتفجرة. يقول إياد، وهو من سكان المخيم: "مروحيات النظام ترمي ثلاثة براميل في وقت واحد. سقطت أول من أمس عشرة براميل. صرنا نخاف العتمة. ففي الليل يشتد القصف".
رفض إياد الخروج من المخيم، علماً أنه كان بإمكانه التوجه إلى دمشق بعد وساطات عدة من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". يقول: "فرض علينا الصمود بعد إغلاق كل منافذ الحياة"، لافتاً إلى أن الحياة هنا صعبة جداً". يضيف: "في إحدى المرات، حين توجهت إلى دمشق لإجراء الامتحانات، كنت عاجزاً عن التواصل مع الناس. كأنني خارج من كهف. خلال هذه الساعات القليلة التي أمضيتها خارج المخيم، شعرت بأنني أخون أهلي. حتى في ظل وجود داعش، لن أترك المخيم أبداً".
مع بدء القصف، يُفرض حظر تجول تلقائي. وفي لحظات الهدوء، يخرج بعض الأهالي إلى الشوارع وتبدأ حركة النزوح إلى منطقة يلدا في ريف دمشق والمناطق المجاورة، علماً أن في ذلك مخاطرة كبيرة بسبب كثرة القناصين. يركض الأهالي حاملين أطفالهم، وبعض الحاجيات، التي ترمى في الشارع للنجاة من القذائف.
في السياق، تقول شادية: "بطبيعة الحال، لم أكن أتوقع أن أشهد أياما كهذه. ما مر علينا من جوع وحصار كان بمثابة تدريب". تضيف: "هنا، من شيع شهيداً تحول إلى شهيد. استشهد صديقي جمال خليفة، وكان دفنه صعباً بسبب استحالة الوصول إلى المقبرة. دفناه في حديقة صغيرة قرب المنزل. أردت بعض الوقت للبكاء عليه. لكنني لم أستطع. فقد تسقط علي قذيفة في أي لحظة".
تتابع: "يموت بعضنا ويبقى آخرون في غصتهم. نحن وحدنا محاصرون في المنزل. نحن عطشى. تمكنا أخيراً من الحصول على وعاء صغير من المياه بعد انقطاع دام يومين".
ليس جديداً خلو المخيم من الطعام. يجلب الأهالي الحشائش من بلدة يلدا. أما المياه فتستخرج من الآبار. ولا يكترثون كثيراً إلى كونها ملوثة. من جهة أخرى، تنشط مجموعات إغاثية فلسطينية داخل المخيم لإغاثة أهله. وتناشد المنظمات الدولية (الهيئة العامة للاجئين، الأونروا، الهلال الأحمر الفلسطيني والصليب الأحمر الدولي) لفتح طرق آمنة لإخراج المدنيين برعاية دولية، تفادياً لكارثة إنسانية. ويقول الناشط أنور القاسمي: "من يعتقد أننا اجتزنا الأسوأ، فهو مخطئ".