قطاع غزة بين التهدئة الشاملة والمعركة المفتوحة

قطاع غزة بين التهدئة الشاملة والمعركة المفتوحة

26 اغسطس 2018
لم تخرج جولات التصعيد عن السيطرة (محمد زارنده/Getty)
+ الخط -
منذ انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار في 30 آذار/ مارس 2018 وقطاع غزة يتأرجح بين التصعيد العسكري والهدوء النسبي، فلا يكاد يمضي أسبوعٌ واحدٌ من دون أن تجتاح القطاع جولة من القصف والاستهداف في عمق القطاع وأطرافه، بواسطة الطائرات الحربية والمدفعية الإسرائيلية، تتعبها ردود برشقات صاروخية من فصائل المقاومة الفلسطينية على البلدات الإسرائيلية المحاذية للقطاع.
سلوك طرفي الصراع في جولات التصعيد الأخيرة يبدو منه حرص كلا الطرفين على عدم الانزلاق إلى معركة عسكرية مفتوحة، فجميع تلك الجولات قصيرة المدة ولا تتجاوز أيامًا أو حتى ساعاتٍ معدودة تنتهي بهدنة يسارع الطرفان إلى الموافقة عليها بدون شروط من أي منهما، بعد تدخل أطراف إقليمية ودولية تسعى هي الأخرى إلى عدم انجرار الطرفين المتنازعين إلى معركة عسكرية مفتوحة.
تأتي غالبية الأعمال العسكرية في هذه الجولات المتقطعة في إطار المعقول والمستوعب من الطرف الآخر، وكأنها جولات مدروسة ومتفق عليها ومركزة ضمن حدود معينة لا يرغب أي من الطرفين في تجاوزها. عمير ربابورت، الخبير العسكري الإسرائيلي في مجلة إسرائيل ديفينس، قال في حديثه عن التصعيد الأخير: "إننا كنا أمام مواجهة محدودة، حافظت فيها إسرائيل والفصائل الفلسطينية على مستوى معيّن من النيران، وبقيت الأمور تحت السيطرة".
الحكومة الإسرائيلية ليس لديها الرغبة في دخول معركة مفتوحة أو عملية عسكرية واسعة في الجنوب، على الأقل ما دامت الأوضاع فيه ثابتة على ما هي عليه ولم يستجد ما يجبرها على الخوض في المواجهة المفتوحة، وهي تضع ما يدور في الشمال، حيث جبهة الجولان نصب أعينها، فهي أكثر أهمية وإلحاحاً على المتابعة والمعالجة بالنسبة للجيش الإسرائيلي الذي حدد في وثيقته الاستراتيجية التي نشرت في بداية العام الحالي والموقعة من رئيس هيئة الأركان غادي آيزونكت، أن الجبهة الشمالية التهديد الأول لدولة الاحتلال، والجبهة الجنوبية، حيث غزة، التهديد اللاحق، بالإضافة إلى أن الحرب على غزة لن تحقق للاحتلال أهدافاً استراتيجية يمكن المخاطرة من أجل إحرازها، في ظل توقع الاحتلال في حال الدخول في معركة مع غزة بوقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوفه ومواطنيه قد لا تستطيع الحكومة الإسرائيلية تحمل نتائجها، إذ إن الجيش الإسرائيلي لم يكمل بعد بناء الجدار الأرضي بينه وبين القطاع، وما زال الحاجز البحري على شاطئ بحر زيكيم في مراحل إنشائه الأولى، هذا في ظل عدم رغبة الطرف الإسرائيلي في إسقاط حكم حماس في غزة، وقد أكد ذلك رئيس الأركان الجنرال غادي أيزنكوت في حديث سابق له بقوله "إن إسرائيل لا تريد حماس، ولكنها في ذات الوقت تفضل بقاءها صاحبة القيادة والسيطرة على القطاع"، لذلك تعمل القيادة الإسرائيلية على تأجيل ودفع الخيار العسكري مع قطاع غزة إلى أبعد نقطة ممكنة، لكن من دون إسقاطه نهائيًا من بين الخيارات المطروحة على طاولتها.
حركة حماس، من جانبها، تُدرك أن الحرب لن تحقق لها مكاسب سياسية جوهرية يمكن البناء عليها واستثمارها في صالحها، ولن تجلب لها إلا مزيداً من الدمار والخراب في كل مؤسسات ومرافق القطاع المدنية والعسكرية، وبالتالي ستفاقم المشاكل والأعباء الملقاة على كاهلها بما أنها هي التي تتحمل أعباء إدارة شؤون القطاع وتسيير الحياة اليومية فيه، وستزيد الضغوط المفروضة عليها، في حين أنها تحاول جاهدة تخليص نفسها مما يمارس عليها من ضغوط وما تلاقيه من أزمات، ولا يمكن إغفال رغبة حركة حماس في أن تبقي يدها على القطاع وتستمر بالسيطرة عليه منفردة، ورغبتها في أن يعترف المجتمع الدولي بها ويتعامل معها بعيداً عن سطوة حركة فتح والسلطة الفلسطينية.
إحجام الاحتلال الإسرائيلي عن الدخول في معركة مفتوحة ضد قطاع غزة منح المقاومة الفلسطينية فرصة تغيير معادلة المواجهة التي يفرضها الجيش الإسرائيلي منذ انتهاء حرب 2014، وفرض معادلة جديدة متمثلة في القصف بالقصف والدم بالدم، ولكنها بالتأكيد حريصة على ألا تتجاوز الخطوط الحمراء، ومنح ذلك للقيادة السياسية الغزاوية أوراق ضغط يمكن المناورة بها لإحراز مكاسب سياسية، بالإضافة إلى ما منحته إياها فعاليات ومسيرات العودة وكسر الحصار من أوراق قوة تضغط بها على الاحتلال الإسرائيلي، وعليه فإن غزة في غنى عن المواجهة العسكرية مع الاحتلال الإسرائيلي طالما توفرت بين يديها وسائل أخرى من الممكن أن تحقق الأهداف المرجوة بتكلفة أقل في الأرواح والمقدرات.
جهات دولية عدة كشفت أن هناك توافقاً دولياً متعدد الأطراف بشأن قطاع غزة، يقوم على فصل الإنساني عن السياسي، ويشمل الإدارة الأميركية والأمم المتحدة ودولاً عربية وغربية، وأن التحرك الأممي يهدف إلى إبرام تهدئة طويلة الأمد تتراوح بين 5 إلى 10 سنوات بين حماس وإسرائيل، مقابل رفع كامل للحصار عن قطاع غزة، وتشييد ميناء بحري ومطار جوي سواء في غزة أو في الأراضي المصرية لصالح غزة، وضخ مشاريع تعزز من التنمية المستدامة في القطاع، وإبرام صفقة تبادل للأسرى بين الطرفين، وأن مسودات عدة قدمت لكل من إسرائيل وحماس بخصوص ذلك.
القيادي في حماس إسماعيل رضوان أقرّ بأن حماس "تلقت العديد من العروض العربية والدولية المتعلقة بالتهدئة والمصالحة وصفقة تبادل الأسرى مع الاحتلال، وأن الحركة تتعامل بجدية مع هذه التحركات والرؤى التي تقدم لنا، وخاصة من قبل مصر، وسيكون الرد عليها وفقاً للمصلحة الفلسطينية العامة".
وعلى الجانب الإسرائيلي، قال وزير الأمن الداخلي غلعاد أردان، عضو المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، إنه "يجب النظر بإيجابية لإمكانية التوصل لتسوية مع حماس؛ لأن هذه التسوية لن تمس بأمن إسرائيل، ولذلك يجب العمل على إنجازها كلما كان ذلك أسرع، في ظل أن تنفيذ عملية عسكرية واسعة في غزة هو الخيار الأسوأ من جهة إسرائيل"، فيما برزت خلافات عميقة بين أفغيدور ليبرمان، وزير الحرب الإسرائيلي، والقيادة العليا لأركان الجيش، حول كيفية التعامل مع غزة، إذ صرح بأن "الهدنة لعشر سنوات لن تخدم إلا حماس، التي ستستغلها لمراكمة القوة"، وأضاف "من دون حل مسألة أسرى الحرب المفقودين لن يكون هناك شيء". مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف قال "إن الأمم المتحدة تشارك مصر في جهود غير مسبوقة لتجنب نشوب صراع خطير" وأنه "يجب إفشال الذين يريدون إثارة حرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين".
ليس من السهل التكهّن إلى أي اتجاه ستسير الأمور بين الجانبين، فالوصول إلى هدنة طويلة بين قطاع غزة وإسرائيل ليس بالأمر البسيط، حتى وإن صدقت النوايا، والطريق إليها طويل ومليء بالعقبات والمفاجآت والتحديات، مع الأخذ بعين الاعتبار مدى استعداد الطرفين ومقدرتهما على تقديم تنازلات ستكون مؤلمة وصادمة من أجل إنجاز اتفاق تهدئة طويل بينهما، والواضح أن الجهود المبذولة حتى الآن لا تتجاوز الحديث عن مسودات واقتراحات قيد الدراسة لم تتطور لأي نوع من المباحثات أو المفاوضات الفعلية بين الجانبين، وليس هناك ضامن لأن يطرأ حدث ميداني يقلب كل شيء ويدفع بالطرفين وبشكل مفاجئ نحو مواجهة عسكرية دامية.
إن إبرام اتفاق هدنة طويلة أو اتفاق منفصل بين غزة واسرائيل، حتى لو ترتب عليه تحسين الوضع الإنساني في قطاع غزة وتحويلها إلى سنغافورة، كما وعد وزير الحرب أفيغدور ليبرمان، من شأنه أن يعزّز الانقسام السياسي والانفصال الجغرافي والاجتماعي بين شقي الوطن، وقد يكون أرضاً خصبة لإنفاذ صفقة القرن، وسيكون له مردود سلبي على حقوق الشعب الفلسطيني وعلى المشروع الوطني الفلسطيني، إذ يتوجب على الأحزاب الفلسطينية الوقوف عند مسؤولياتها الوطنية والأخلاقية وتقديم كل ما يلزم لإنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية على أساس الشراكة وترتيب البيت الفلسطيني وفقاً للمصلحة الوطنية العليا، وحل مشكلات وأزمات قطاع غزة عبر التوافق والحوار البناء، وذلك لإنقاذ القضية الفلسطينية من محاولات التجزئة الرامية إلى تصفيتها وإنهاء وجودها.

المساهمون