قطارات مصر.. قتلى على سكّة الحديد وكبش الفداء عامل
نادين ثابت​ ــ القاهرة
خمسة قتلى و27 جريحاً نتيجة هذه الحادثة (الأناضول)

كشف تقرير أصدرته هيئة "سكك حديد مصر" أنّ إجمالي حوادث سكك الحديد بلغ أربعة آلاف و777 حادثة في السنوات الخمس الأخيرة. والمشكلة لا تكمن هنا فحسب، بل بتحميل المسؤوليّة للعمّال أو السائقين دون سواهم.

قبل أكثر من 14 عاماً، وتحديداً في 20 فبراير/ شباط 2002، تفحّم 361 جسداً داخل قطار من الدرجة الثالثة يحمل رقم ‏832، كان متجهاً إلى أسوان من القاهرة. كان هؤلاء الضحايا في طريقهم إلى قضاء إجازة عيد الأضحى مع عائلاتهم. حينها، حمّلت الحكومة برئاسة عاطف عبيد، الركاب مسؤولية الحريق لاستخدامهم مواقد وأجهزة اشتعال في داخل عربات القطار، وأصدرت تصريحات طمأنت فيها الغرب بأنّ أيّ أجنبي لم يتضرر، فيما اكتفت بصرف تعويضات هزيلة لأسر الضحايا.

أحيلت الحادثة إلى القضاء المصري، بعدما وجّهت النيابة العامة المصرية اتهاماتها لعمّال وموظفين في سكك الحديد. وفي 29 سبتمبر/ أيلول 2009، صدر الحكم النهائي ببراءة العمّال، ورفضت الدعوى المدنية ضدّ وزير النقل ورئيس مجلس إدارة هيئة "سكك حديد مصر". بالتالي، ظلّ الجاني مجهولاً حتى اليوم، بسبب تضارب معلومات التقرير الفني، وفق ما جاء في حيثيات الحكم.

منذ ذلك الحين، أصبحت أصابع الاتهام توجّه مباشرة إلى عمّال المزلقانات (تقاطعات سكك الحديد مع الطرقات) وموظفي سكك الحديد، من دون إلقاء أيّ لوم على أيّ مسؤول. لكنّ المعنيين قد يقيلون وزير النقل، كما حدث في كارثة قطار الصعيد. هكذا، يصبح عامل المزلقان أو موظّف في سكك الحديد وحده كبش الفداء.

قطارات العياط

ما زالت صور الجثث المتفحمة تراود ذاكرة المصريين حتى الآن، كلّما وقعت كارثة جديدة على سكك الحديد في مصر. آخرها وقعت قبل أيام من عيد الأضحى، تحديداً في السابع من سبتمبر/ أيلول الماضي، عندما خرجت العربات الثلاث الأولى من القطار رقم 80 المتّجه من أسوان إلى القاهرة عن سكّتها، في قرية صغيرة في منطقة العيّاط، جنوب غرب الجيزة، الأمر الذي أسفر عن وقوع خمسة قتلى و27 جريحاً.

سبقت هذه الحادثة أخرى وقعت صباح 31 يناير/ كانون الثاني الماضي، عندما اصطدمت سيارة نقل تعبر سكة الحديد بقطار عند مزلقان قرية البليد في منطقة العياط، وأدّت إلى وفاة سبعة أشخاص وجرح ثلاثة آخرين. وقد أفاد سائق القطار في تحقيقات النيابة، بأنّه أغلق "شراعة" (حاجز حديدي) المزلقان من الجهة الأخرى التي كانت تقف عندها السيارة، لكنّ قائدها لم ير الحاجز بسبب الضباب. وشدّد على أنّ "جهاز الإنذار الذي ينطلق مع قدوم القطار معطل عن العمل منذ فترة بسبب الأمطار". يُذكر أنّ عامل المزلقان م. ف. حصل على حكم بالبراءة أخيراً، في حين ما زال سائق القطار متهماً. ويخبر أحد أقارب عامل المزلقان أنّ "القضية حفظت بعد تبرئته وتوجيه الاتهام إلى سائق القطار"، مضيفاً لـ "العربي الجديد" أنّ "العامل نقل إلى مكان آخر، لأنّ أهل القرية حيث وقعت الحادثة يكنّون له كراهية وعداوة. كذلك لم يعد قادراً نفسياً على العمل في موقع الحادثة".

في هذا السياق، يقول م. م. وهو سائق قطار في هيئة سكك حديد مصر، إنّ منظومة سكك الحديد في مصر "فاشلة بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى". ويسأل: "هل يعقل أنّ وسيلة التواصل بين السائقين وعمال المزلقانات وأبراج المراقبة في المحطات، هي من خلال الهواتف الشخصية المحمولة؟". يضيف لـ "العربي الجديد" أنّ "لا تواصل بين العاملين. فإذا لم أكن أملك رقم عامل المزلقان الشخصي، أو إذا اتصلت به ولم يجب أو كان خطّه مقفلاً، ببساطة تقع كارثة. بالتالي، كل واحد يقود القطار على مسؤوليته الشخصية". ويشير السائق إلى أنّ "هذا ما تؤكّده حادثة قطار العياط الأخيرة. ببساطة، نقل عامل التحويلة القطار على خطّ مغلق، فتدهورت عرباته الثلاث الأولى".

تجدر الإشارة إلى أنّه في حادثة قطار العياط الأخيرة، أمرت نيابة جنوب الجيزة بحبس سائق القطار وعامل التحويلة أربعة أيام على ذمة التحقيق، وقد وجّهت لهما تهمة "القتل والشروع في قتل 35 مواطناً" في حادثة انقلاب القطار. وكانت المعاينات الأولية للحادثة قد لفتت إلى احتمال وقوعها حين اضطر سائق القطار إلى استخدام المكابح فجأة إثر رؤيته مشكلة ما في القضبان، وهو ما أدّى إلى انقلاب الجرار وعربتَين.




أرقام مقلقة

تشير الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) إلى وقوع ألف و234 حادثة قطار في مصر في عام 2015 فقط، من ضمن 14.5 ألف حادث مروري في العام نفسه. وهو ما أسفر عن مصرع ستة آلاف و203 أشخاص وجرح 19 ألفاً و325 آخرين.

وقد كشف تقرير صدر عن هيئة سكك حديد مصر في السابع من سبتمبر/ أيلول المنصرم، أنّ إجمالي حوادث سكك الحديد بلغ أربعة آلاف و777 حادثة في السنوات الخمس الأخيرة. منذ عام 2011، تزايدت حوادث القطارات بصورة كبيرة. ففي حين سجّلت 489 حادثة في عام 2011، وصلت إلى 447 حادثة في عام 2012 وإلى 781 حادثة في عام 2013 وإلى ألف و44 حادثة في عام 2014، وإلى 2015 حادثة في العام الماضي 2015.

ويصف سائقو القطارات ما يحدث على سكك الحديد في مصر بـ"الأزمة". ويقول أحدهم إنّ "الأزمة هي في انعدام صيانة الجرارات والوحدات المتحركة في القطارات"، مشدداً على أنّ "القطارات غير صالحة للاستهلاك البشري، إذ كلّ مسمار ولوح حديد فيها في حاجة إلى صيانة وإعادة تأهيل". يضيف السائق الذي فضّل عدم الكشف عن هويّته لـ "العربي الجديد" أنّ "عددنا قليل ونضطر إلى العمل لأكثر من 12 ساعة متواصلة. خاطبنا المسؤولين كثيراً، لكن من دون فائدة". ويوضح أنّ "رحلة القاهرة - أسوان مثلاً مرهقة جداً بالنسبة إلى سائق واحد. لا بدّ من أن يكون ثمّة سائق آخر للتناوب".

وكان المتحدّث باسم "الرابطة العامة لقائدي القطارات" حسن عيسى قد كشف عن عجز في عدد السائقين ومساعدي السائقين يصل إلى 1700 سائق، في حين يعمل في الخدمة حالياً نحو أربعة آلاف سائق على 300 قطار وجرار ويسيّرون نحو ألف رحلة يومياً.

تحركات مطلبيّة

النقص في الصيانة أو انعدامها وقلة عدد السائقين والمساعدين ليست وحدها المشاكل التي يشكو منها سائقو القطارات في مصر، فثمّة مشكلة كبرى تتمثّل في الأجور. ويؤكّد سائقو القطارات أنّ مرتّباتهم هزيلة على الرغم من طول مدة عملهم في الهيئة. يقول أحدهم، وهو يعمل منذ نحو 26 عاماً، بأنّ راتبه نحو ألف و500 جنيه مصري (150 دولاراً أميركياً). ويشير آخر إلى أنّه يعمل منذ عشرين عاماً ويتقاضى نحو ألف و300 جنيه (130 دولاراً)، فيما تقلّ مرتبات المساعدين عن ألف جنيه (100 دولار).

وسبق أن نظّم سائقو القطارات في مصر أكثر من إضراب عن العمل للمطالبة بهيكلة أجورهم، كان آخرها في ديسمبر/ كانون الأول 2015. حينها، طالبوا بصرف الحوافز الخاصة بهم، فأجرى وزير النقل المصري مفاوضات معهم انتهت بالإعلان عن قرار بصرف 600 جنيه (60 دولاراً) لهم في مقابل تعليق الإضراب.

تجدر الإشارة إلى أنّ لعمال سكك الحديد في مصر تاريخاً نضالياً كبيراً يعود إلى عام 1986، عندما نظموا أشهر إضراب لهم عن العمل في تاريخ سكك الحديد المصرية. بدأ الإضراب حينها اعتراضاً على سوء توزيع الحوافز والمكافآت على العاملين. وعندما لم يُستجب لمطالبهم، قرروا الاعتصام في مقرّ رابطة قائدي القطارات، فتوقّفت عن السير. وعمد بعض السائقين إلى ترك القطارات على الخطوط الطولية وأغلقوا الجرارات، فاقتحمت قوات الأمن المركزي مبنى رابطة السائقين وألقت القبض على عدد منهم. لكنّ الإضراب استمرّ إلى حين استجاب وزير النقل المصري آنذاك لمعظم مطالبهم.

في سياق متصل، تشير دراسة صادرة عن "مركز الدراسات الاشتراكية" إلى أنّ عمّال سكك الحديد في مصر من ضمن أقدم القطاعات العمالية المصرية ذات الوعي النضالي التضامني، بما يمتلكونه من خبرة واسعة في التنظيم. وتوضح الدراسة أنّه في مطلع القرن العشرين عندما كان يجرّم تأسيس النقابات، أسّس عمّال سكك الحديد نقابة سرية في عام 1908 تحديداً، وأطلقوا عليها اسم "الجمعية السرية لبؤساء السكة الحديد". وكانت لها مطالب رئيسية تهدف إلى إصلاح الأحوال المعيشية لعمّالها. فأصدرت منشورات تعبّر عن تذمّر العمال وقتها من شروط عملهم، الأمر الذي دفع بالإدارة إلى الاستجابة لبعض مطالبهم في النهاية. وفي يناير/كانون الثاني 1911، بعد أسابيع عدّة من الإضراب الواسع الذي نظمه عمّال السكة في أكتوبر/ تشرين الأول 1910، أسّس عمال السكة الحديد أوّل تنظيم نقابي علني لهم أطلقوا عليه اسم "جمعية عمال عنابر السكة الحديد بالقاهرة".