قصة البهاء زهير (1)

قصة البهاء زهير (1)

20 يوليو 2020
+ الخط -

أبو الفضل بهاء الدين زهير مصري الجنسية، وإن كان حجازي المولد، ويجزم الدكاترة -لا الدكتور، كما كان يُطلق على نفسه- زكي مبارك أن البهاء مصريٌّ حتى النخاع، وأنه ليس حجازي الأصل، وإنما هو لأسرة مصرية سافرت إلى الحجاز مدةً ثم عادت لتقطن بلدة قوص في صعيد مصر.

عاش البهاء زهير في القسم الأخير من العصر العباسي، إذ ولد أواخر القرن السادس الهجري، وتوفي بعد منتصف القرن السابع بثماني سنين، وبذلك -أيضًا- يكون قد عاصر دولة بني أيوب وصدرًا من دولة المماليك البحرية (6 سنوات)، وبلغ رتبةً تزاحم الوزارة جاهًا أو تزيد، وترأس ديوان الإنشاء في بلاط الدولة الأيوبية.

قيل إنه ولد في مكة المكرمة، وقيل بل ولد في وادي نخلة، وهي على بُعد حجر من مكة، وعاش بها طفولته وشطرًا من صباه، ثم ارتحلت أسرته إلى صعيد مصر، وهناك قضى جلّ حياته، وتعرف في صباه إلى ابن أسيوط العامرة، جمال الدين المصري يحيى بن مطروح الشاعر (592 – 658هـ)، وتوثّقت عُرى الصداقة بينهما حتى قضيا.

لكن البهاء زهير يختلف مع مبارك، ويوثّق لنا ابن خَلِّكان هذا الاختلاف في "وفيات الأعيان"، ومبعث الاختلاف الذي لا يقوى "الدكاترة" على دفعه أن البهاء "بشحمه ولحمه" أملى نسبه على معاصر ابن خلكان، وجهًا لوجه ما يجعل السند يستعصي على الطعن فيه بحال. من سلسلة نسبه، والتي نقلها صاحب الوفيات بدقة، يتبيّن لنا أن البهاء زهير ينتهي نسبه إلى سيِّد أهل العراق المهلب بن أبي صُفرة، وفق منقبةٍ خلعها عليه عبد الله بن الزبير.

واستوقفني صديقي ابن خلِّكان قائلًا: لعلك تظن بي خطلًا أو خطأ؛ فمرة قلتُ إنه ولد في مكة، وأخرى قلت إنه ولد في وادي نخلة، واسمح لي يا صديقي أن أزيل هذا اللبس! قلت: تفضل، بكل أريحية هاتِ ما عندك؛ فقال: في قولي مكة تعريفٌ بالأشهر الأعرق من بلاد الحجاز، وفي قولي وادي نخلة تحديد للمولد على التعيين والتخصيص، والتوفيق بين الأمرين كما ترى أمرٌ يسير، وسأتحفك بلطيفةٍ أخرى، قلت: هاتِها؛ فكل ما يأتينا منك لطيف وبديع.

قال: إن أول من لقِّب بالإضافة إلى الدين، وفق القلقشندي صاحب "صبح الأعشى في فن الإنشا"، بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه؛ فقد زاد على لقبه (نظام الدين)؛ فلقِّب بـ"بهاء الدولة نظام الدين"، وكان الناس بادئ الأمر يحتاجون إلى موافقة السلطان على لقب الانتساب إلى الدين، ثم شاع هذا الانتساب فترى شهاب الدين ونجم الدين وعز الدين وفخر الدين، وكلها ألقاب ويعلم الله وحده حظ الدين منها!

وعلاقة البهاء زهير بابن مطروح تذكرنا بعلاقة بين شاعرين آخرين، وثمة ملامح مشتركة بين هذه وتلك، إذ إن صفي الدين الحلي (677 – 752هـ) وهو شاعر عراقي ولد في الحلة الفيحاء، قد اتصلت أسبابه بمعاصره الشاعر جمال الدين بن نباتة المصري (686 – 768هـ)، وبلغ من محبتهما أن دعا ابن نباتة الحلي إلى النزول على صاحب حماة، ووعده أن يغدق عليه من واسع عطائه، وقد كان.

لا تنسف صُحبة البهاء زهير وابن مطروح، ومن بعدهما صداقة الحلي وابن نباتة، مقولة ابن رشيق القيرواني الخالدة "المعاصرة حجاب"، وإنما تؤكد أن للمرء أصدقاء وأحبَّة كما أن له أعداء وموتورين، شاء ذلك أم أبى. لا يملك العاقل أن يعيش منعزلًا عن الناس كلها، وإنما يجدر به أن ينتقي صحبةً تعينه وتشجعه، وأن يتحلَّل ويتخفّف من صحبة تحط من قدره، أو تكبح طموحه وتجهض آماله.

عضَّ الدهر بنابه ابن نباتة، وأجبره على ترك المحروسة بحثًا عن لقمة العيش، واتصل بخدمة أبي الفداء إسماعيل بن علي بن محمود (672 – 732هـ)، صاحب كتاب "المختصر في أخبار البشر"، والمعروف بتاريخ أبي الفداء، وعرف أبو الفداء قدره فأكرمه وبسط له اليد واللسان، وظل تحت جناحه وجناح ابنه الفضل من بعده.

أما ابن مطروح فقد دخل وصاحبه في خدمة ولي العهد الصالح نجم الدين أيوب، في حياة والده الكامل، قبل أن يجلس نجم الدين على العرش، وتغيّر نجم الدين أيوب، سنة 646هـ، على ابن مطروح لأمور نقِمها عليه (لم تصلنا تفاصيلها وخلفياتها بعد)، وبقي ناقمًا عليه إلى أن مات الصالح في ليلة النصف من شعبان 647هـ، ولزِم ابن مطروح بيته ثلاث سنوات، إلى أن مات ليلة الأربعاء، مستهل شعبان سنة 649هـ، ودُفن بسفح المقطَّم، وحضر صديقي ابن خلّكان جنازته ونقل لي خبره.

تغيّر الصالح أيوب -كذلك- على البهاء زهير، وعزله من منصبه ونصَّب مكانه تلميذه الصاحب فخر الدين بن لقمان الأسعردي، ولزِم البهاء داره حتى مات بها بمرض يشبه في سطوته فيروس كورونا المستجد (المسبب لمرض كوفيد-19)، وقضى فقيرًا معدمًا بعد الوجاهة وارتفاع المكانة، لكن مصادر ابن خلّكان أمدته بسبب تغيُّر الملك على البهاء، ولهذا حديثٌ يطول.

يقول أبو الفداء في تاريخه -وكذلك في تاريخ ابن الوردي- إن البهاء "قد انكشف حاله حتى باع موجودَه وكتبه وأقام في بيته بالقاهرة حتى أدركه أجله"، ولقي ربه في السنة التي اكتسح فيها التتار دار السلام (بغداد).

ويفصِّل صديقي ابن خلِّكان القول: "ثم حصل بالقاهرة ومصر مرض عظيم لم يكد يسلم منه أحد، وكان حدوثه يوم الخميس 24 من شوال سنة 656هـ، وكان البهاء زهير ممن مسه منه ألم؛ فأقام أيامًا ثم توفي قبيل المغرب يوم الأحد رابع ذي القعدة من السنة ذاتها، ودُفن من الغد بعد صلاة الظهر بالقرافة الصغرى بتربته بالقرب من قبة الإمام الشافعي، رضي الله عنه، في جهتها القبلية، ولم يتفق لي الصلاة عليه لاشتغالي بالمرض، رحمه الله تعالى. ولما أبللتُ (تعافيت) من المرض، مضيت إلى تربيته وزرته وقرأت عنده شيئًا من القرآن، وترحمت عليه لمودة كانت بيننا".