قرارات "هزلية" لمواجهة الكارثة

قرارات "هزلية" لمواجهة الكارثة

25 اغسطس 2019
+ الخط -
أعلن الرئيس محمود عباس وقف العمل بجميع الاتفاقيات التي وقعت بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في إطار اتفاق أوسلو وأعطى تعليمات فورية بتشكيل لجنة مختصة لوضع الآليات اللازمة لتنفيذ القرار، وجاء إعلان الرئيس عقب انتهاء اجتماع طارئ عُقد مساء يوم الخميس الموافق 25 يوليو/ تموز 2019 للقيادة الفلسطينية في رام الله لمناقشة سبل الرد على العدوان الإسرائيلي في بلدة صور باهر جنوب شرقي القدس المحتلة والذي وصف بأنه تطهير عرقي أقدمت فيه سلطات الاحتلال الإسرائيلي على هدم عشرة مبانٍ فلسطينية تحتوي على نحو مائة شقة سكنية في المناطق المصنفة (أ) والتي تخضع لسيطرة السلطة الوطنية الفلسطينية الإدارية والأمنية بشكل كامل، وقد ضَم الاجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية واللجنة المركزية لحركة فتح وقادة الأجهزة الأمنية.

قرار عباس نال ترحيبًا كبيرًا في المجتمع الفلسطيني الغاضب، وتأييدًا واسعًا من المجموع السياسي الفلسطيني فقد أيدته حركتا حماس والجهاد الإسلامي والجبهتان الشعبية والديمقراطية والفصائل الفلسطينية كافة وأجمعت عبر بيانات وتصريحات رسمية صدرت عن ناطقيها وقادتها بأن القرار خطوة في الاتجاه الصحيح، وإن كان يشوب هذا الترحيب الشعبي والتأييد الفصائلي شكوك في عدم إنفاذ القرار وتطبيقه على أرض الواقع، ومخاوف من بقائه حبيس الأوراق التي دوّن عليها، قياسا بمصير قرارات مشابهة أقرتها القيادة الفلسطينية سابقًا تقضي بوقف أو تعليق التعامل الفلسطيني مع الجانب الإسرائيلي ووقف الالتزام بالاتفاقيات الموقعة معه، ووقف التنسيق الأمني مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، والتي جاءت غالبيتها كرد فعل على جرائم الاحتلال الإسرائيلي وتغوله على الشعب والمقدسات الفلسطينية ونظرًا لعدم التزام دولة الاحتلال بما عليها من التزامات واستحقاقات المنصوص عليها في الاتفاقيات الموقعة معه، ومن أبرز تلك القرارات ما أقره المجلس المركزي الفلسطيني في 2015 بخصوص وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل وتعليق الاعتراف بها، وقراره أيضا في 2018 حول إنهاء التزامات منظمة التحرير والسلطة الوطنية الفلسطينية تجاه اتفاقياتهما مع سلطة الاحتلال، لكن تلك القرارات وبالرغم مما تمتعت به من قوة ودعم وأحقية إلا أن الطريق لم تمهد أمامها للتطبيق الفعلي ولم تجد فرصة حقيقية لتنفيذها ولم يرَ أي من بنودها النور.

من الملاحظ والمثير للدهشة أنه رغم صدور عدد من القرارات من المؤسسة السيادية الفلسطينية تقضي بالانفصال عن دولة الاحتلال ووقف التعاون معها وفي ظل القطيعة المستمرة بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي على المستوى الرسمي وخاصة في ما يتعلق بمباحثات السلام وترتيبات الوضع النهائي، واستمرار الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في عربدتها وتصرفها كما يحلو لها في المناطق الفلسطينية من دون أي مراعاة لصلاحيات واختصاصات السلطة الفلسطينية، إلا أن الأخيرة لم تغير من سياساتها وسلوكها وما زالت تمارس دورها ومهامها المنوطة بها والمحددة لها وفقا للاتفاقيات المقصودة بلا أي تراجع أو تراخ ومستمرة حتى اللحظة في التنسيق الأمني والتعاون مع لجان الاحتلال ومرجعياته على أكمل وجه وبدرجة عالية من الانسجام والتوافق، وإن كان من جدية في توجه السلطة ومصداقية في نواياها فعليها أن تتوقف عن التنسيق الأمني أول ما تتوقف لما ترتب عليه من عواقب وخيمة على المجتمع الفلسطيني ولما أضر بالسلطة وشوّه صورتها وغير من عقيدة أجهزتها الأمنية فصارت بدلًا من دعم الصمود والنضال الفلسطيني تطارد المقاومة وتعيقها وتحاصرها في صورها كافة، شعبية كانت أم عسكرية.

على ما يبدو وبناءً على معطيات الواقع لم تتجاوز قرارات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في أهدافها والغرض منها حدود امتصاص الغضب الشعبي وتسكين الشارع الفلسطيني المكلوم، والظهور أمامه بمظهر من يملك الخيارات ولديه أوراق قوة، وإرسال رسائل احتجاجية في ذات الوقت للحكومة الإسرائيلية وللإدارة الأميركية والمجتمع الدولي يُقصد من ورائها تحريك المياه الراكدة ليس إلا، والأرجح أنه لم يقصد من وراء القرار التنفيذ الفعلي أو إغلاق باب التعاون مع دولة الاحتلال الإسرائيلي ووقف التنسيق الأمني أو الاستدارة نحو التصعيد معها في هذا الجانب، ومن المتوقع أن مصير القرار الأخير سيكون مثل مصير القرارات السابقة التي اتخذتها القيادة الفلسطينية بهذا الشأن، وربما هذا الترجيح والتوقع هو ما يفسر صمت المؤسسة السياسية الإسرائيلية تجاه القرار فلم يتطرق إليه أي من الساسة الإسرائيليين في أي من المستويات السياسية ولم يصدر أي تصريح رسمي للتعقيب على القرار.

ليس بمقدور السلطة الوطنية الفلسطينية أن توقف بشكل فعلي التعاون مع دولة الاحتلال الإسرائيلي أو أن تتراجع من طرفها عن الالتزام بالاتفاقيات الموقعة معها لأنها ببساطة لن تكون قادرة بعد ذلك على الاستمرار في سلطتها، فكيف لها أن تسير معاملاتها المالية والاقتصادية وترتيبات الشؤون المدنية والتعليمية والتحويلات الطبية وتوفير مقومات الوزارات والاحتياجات والمستلزمات الحياتية اليومية بمعزل عن إجراءات الاحتلال وترتيباته، وستقف عاجزة أمام متطلبات تحركات قادتها ومسؤوليها في المناطق الفلسطينية أو إلى الخارج، لارتباطها بشكل أساسي بالاحتلال الإسرائيلي وارتهانها بموافقة أجهزته الأمنية، إضافة إلى ارتباط شخصيات وازنة وقيادات في مفاصل السلطة الفلسطينية بمصالح شخصية مع الاحتلال الإسرائيلي وضباطه فقد استطاعت إسرائيل أن تشتري الولاءات وأن يفتح ضباطُها، إداريون وأمنيون، خطوط تعاون فردي مشترك وتدشين قنوات علاقات شخصية مع قيادات في السلطة وأجهزتها الحكومية، يمكن بالتعاون معهم القفز والالتفاف عن أي قرار فلسطيني يمكن أن يشكل ضررًا على المصالح الإسرائيلية والعمل من خلالهم على إفقاده جدواه وسلبه نقاط قوته وتأثيره، ولهذه العلاقات دورها الفاعل في الدفع في المؤسسات السلطوية الفلسطينية الرسمية نحو عدم تفعيل قرارات الانفصال وتقديم النصائح للقيادة بالتأجيل والنظر في بدائل أخرى، مما يحول دون تنفيذ القرارات على أرض الواقع ويساهم في وضع العراقيل والتعجيز أمام أي محاولة لذلك، إذ إن وقف التنسيق الأمني والانتهاء من الالتزام بالاتفاقيات والبروتوكولات الموقعة معه وما يتعلق بها من ملاحق يعني فقدان هذه الشخصيات والقيادات لصلاحياتها وامتيازاتها الشخصية ومنافعها الذاتية الناتجة عن استمرار العلاقة والتنسيق مع الاحتلال.

السلطة الوطنية الفلسطينية لا تملك من القوة ما يمكنها من ولوج هذا المسار وليس لديها الإمكانيات اللازمة ولا الاستراتيجيات المناسبة لخيار كهذا، ولم تتوقع سيناريوهات يمكن العمل عليها في حال وصلت بها الظروف إلى ما وصلت إليه، وأنها وبما أسلفت على مدار 25 سنة لم تعد العدة لهذا اليوم ولم تبنِ خطوط دفاعها عن قرارها ولم تحصن مؤسساتها أمام تغول الاحتلال ولم تستقل بصلاحياتها أمام التنصل والنكران الإسرائيليَين لاشتراطات السلام الموقعة، فالسلطة الفلسطينية اليوم مستسلمة للأمر الواقع والمفروض عليها من قبل تل أبيب وتنعد لديها وسائل التأثير وليس في يدها شيء غير التهديد والوعيد والزبد والرعد بعيدًا عن الفعل والتنفيذ.

المساهمون