قتيلة عمّان ودمها المهدور

قتيلة عمّان ودمها المهدور

11 مايو 2020
+ الخط -
فيما نراقب، نحن في الأردن، محاولات الدولة والأجهزة الأمنية والكوادر الطبية لكبح جماح كورونا والحد من انتشاره، ونتوهم، في لحظة تفاؤل غير ناضجة، أن تهديد تفشّي الوباء اللعين جعل حياتنا مختلفة، وكذلك طريقة تفكيرنا، ونظرتنا إلى الأمور، وتوهمنا أنه غيّرنا وهذّبنا، وارتقى بنا إنسانياً، وجعلنا أكثر تقديراً لقيمة الحياة، غير أن جريمة مروّعة جرت أحداثها الرهيبة في جنوب العاصمة عمّان، في منتصف الشهر الفضيل، أيقظتنا من الوهم. ففي خبر عابر لم يتوقف عنده كثيرون، طالعتنا وسائل الإعلام ببيان صادر عن الناطق الإعلامي في مديرية الأمن العام، يفيد بلهجة محايدة، بأن شخصاً أقدم على طعن شقيقته التي تبلغ 14 عاماً في ظهرها داخل منزلهما، ما أدّى إلى وفاتها. واعترف القاتل العشريني بارتكابه الجريمة، معللاً فعلته الشنيعة بإقدام شقيقته المغدورة على إنشاء حساب على "فيسبوك" (الله أكبر!). ووجّه إليه المدّعي العام لمحكمة الجنايات الكبرى تهمة القتل بقصد. 
المروّع أكثر في هذه الجريمة، أن الرأي العام لم يحرّك ساكناً، ولم تشغل المأساة الناس المنهمكين أصلاً في الاطمئنان على استمرار تقديم خدمة القطائف في المخابز، وتوافر كل المواد الغذائية في المحال التجارية، بل فار دمهم وغلى في العروق أكثر، بسبب تصرف أرعن لفتية جهلاء قادمين من الخارج، حجرتهم الدولة حرصاً على السلامة العامة، فاحتفلوا بعودتهم المظفرة بأن عقدوا حلقة الدبكة متراصّين متكاتفين، غير آبهين للفيروس، فتعرّضوا لعقوبة عاجلة بحلق شعر رؤوسهم! أثارت العقوبة المبتكرة لغطاً واسعاً على مواقع التواصل، طغى على خبر قتل الصبية، وأدان نشطاء عقوبة قصّ الشعر، واعتبروها انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان، فيما أشاد كثيرون بالعقوبة الرادعة! كذلك أصبح سائق شاحنة عائد، طُلب منه تطبيق الحجْر الذاتي في منزله، غير أنه لم يلتزم التعليمات، وخالط الأهل والأصدقاء والمعارف والجيران، هو وعائلته، موضوعاً للهجاء والتشهير والتنمر الإلكتروني.
في غمرة هذه الأحداث، أُجهِز على البنت في منزلها بصمت، ولم تشتعل على إثر فداحة الجريمة أي عواصف إلكترونية مندّدة بالفعل الوحشي، ولم تتحرّك المنظمات الإنسانية والنسوية لشجب الجريمة، والمطالبة بتوقيع أشد أنواع العقوبة على الأخ الذي هان عليه سفح دم الطفلة المغدورة مرّتين: بفعل الاغتيال الجائر وبالإهمال والتجاهل الإعلامي. وقد ظهرت بعض ردود الفعل المندّدة، وانتشرت بعض تعليقاتٍ صادمة مجرّمة متخلفة، تشدّ على يد القاتل، وتبرّر الجريمة، تلمّح إلى حماية الشرف الرفيع، وتؤكد ضرورة التحقق من سبب ارتكاب الجريمة، وكأنهم يقرّون ضمناً بحق الأخ في سلب شقيقته الصغرى حقها في الحياة تحت أي مبرّر. وحاول علماء اجتماع وأكاديميون تجيير الحكاية لظروف الحجْر الصحي في البيوت الذي أدّى، كما يرون، إلى زيادة مظاهر العنف الأسري.
المثير للحزن والقهر وخيبة الأمل، أن الأهل سيبادرون، كما جرت العادة، إلى إسقاط الحق الشخصي، ما سينقذ عنق القاتل المجرم، ويضيع حق الفتاة، من دون أن يرفّ لعين العدالة العمياء أصلاً أي جفن، ومن دون أن يتغير في حياة الواحد منا أي تفصيل. سنواصل متابعة أنباء كورونا، ونعمل بسذاجة على أسطرة مسؤولين وتمجيدهم لمجرّد أنهم يقومون بواجبهم المفترض من دون زيادة أو نقصان. نتابع ما تيسّر من مسلسلات رمضان، ونتبادل الآراء عن حقيقية مقالب رامز جلال، وتبادل وصفات الأطباق الرمضانية. ستمضي حياتنا في سياقها الرتيب المعتاد، متجاهلين عمداً المشهد الدامي لمصرع صبيةٍ غضّة، غادرت الطفولة لتوها، وهي تنتفض كذبيحة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.