قبلة على خد البرمجية

قبلة على خد البرمجية

18 اغسطس 2015
لوحة للفنان الفلسطيني إسماعيل شموط
+ الخط -
بعد أتمتة محطّات بيع البنزين في فرنسا قبل أكثر من 3 عقود، والاستغناء عن عمّالها ومحاسبيها، شعرتُ بالكآبة والحزن.
تساءلتُ لماذا اللجوء لهذه الأتمتة في مجتمعٍ لا يخلو من البطالة. ولا سيّما أن ضخّ السيارات بالبنزين، في المساء بعد انتهاء دوام عمال المحطات، كانت وسيلة تسمح للطلاب الجامعيين بكسب العيش والدراسة.
شعرتُ بالقلق أيضاً، وكأنّ هناك "يداً خفيّة" ترسم مستقبل الحياة البشرية على نحوٍ أنانيٍّ يستجيب لمصالح المهيمنين على الاقتصاد، ويدحرجُ الإنسان رويداً رويداً نحو الهاوية.
ثمّ بعد سنين من ذلك، عندما تمّت أتمتة بيع تذاكر المترو والقطارات في المحطات، زاد قلقي للسبب نفسه. ناهيك عن أن من قام بذلك هو قطاع الدولة نفسه، لأن المواصلات هنا ملكه وحده.
لو أتْمتَت الدولةُ تنظيف الطرقات وتجميع الزبالة مثلاً، واستبدلت الإنسان فيه بروبوتات، لما حزنتُ بالطبع، لأن هذه الأتمتة الحميدة ستعفي الإنسان من أداء مهامٍ ليست أنيقة.
ثمّ لم تتوقف اليد الخفيّة عن مواصلة تنفيذ خطّتها: جاء دور أتمتة مكاتب البريد، ليجد الإنسان نفسه أمام الآلة وهو يبعث الطرود المسجلة، ويقوم ببقية المعاملات البريدية.
في كلِّ هذه المرافق المؤتمتة تجد نفسك وحيداً، يواجهك جهاز تحشر فيه أوّلاً بطاقة حسابك البنكي (التي لا يمكن للمواطن عمل شيء من دونها)، قبل أن تُنفِّذ الأوامر التي تنكتب أمامك على الشاشة.
صار كلّ ذلك جزءًا من فولكلور الحياة اليومية في "المجتمعات الآلية". ولا تخطر اليوم في بال إنسانٍ فيها العودةُ إلى الخلف لِمراجعتها، رغم ازدياد البطالة.
غير أن فولكلور اليد الخفيّة دخل مراحل جديدة أكثر إثارة وأشدّ خطورة؛ المثلُ المثير الذي وقعتُ في مطبِّهِ أنا بنفسي:
حدثَ ذلك قبل أيام فقط. انقطع الإنترنت في منزلي بشكلٍ مفاجئ. حاولت الاتصال بالشركة المسؤولة. كان الخط الهاتفي مشغولاً، والرسالة الصوتية المسجلة تقول بإمكان استبدال هذه المكالمة الهاتفية بـ"تشات" (دردشة كتابية على شاشة الكمبيوتر، عبر الإنترنت).
لجأتُ إلى هذا الحل عبر إنترنت هاتفي المحمول الذي لا علاقة له بهاتف المنزل.
بدأتْ محاوِرتي في الـ"تشات" بالتعريف بنفسها: سارة. تلتهُ بتوجيه أسئلة متوالية دقيقة حول ماهيّة العطل، لتشخيص أسبابه.

اقرأ أيضاً: في رثاء البقر

حوارٌ طويل كان من الأسهل القيام به هاتفياً. أجرت سارة طواله من بعيد، بعض الفحوصات للخط الهاتفي لتحديد علّة العطل.
بعد نصف ساعة، جاء ردُّها الفاصل: سبب العطل الحفرُ الجاري لإدخال الألياف الضوئية في الدائرة السكنية، وسيعود الخط بعد أقل من ساعة!
مرّ كل شيء كما يجب. كان الحوار فعّالاً رصيناً لم تَشُبْه شائبةٌ لغوية. ثمّ وجّهت لي السؤال الأخير: "السيد حبيب عبد الرب، ألك احتياجات إنترنيتية أخرى؟".
لشيءٍ في نفس يعقوب، سأبرِّرهُ بعد قليل، كتبتُ ردّاً خارج الموضوع. كان من الأجدى أن تقول بعده سارة: "أتسخر مني؟"، أو "هل أنت بكامل حواسك؟"، لكنها قالت: "السيد حبيب عبد الرب: لم أفهم ما تريد، وضّحْ طلبك". أجبتُ بردٍّ أكثر غرائبية: "أريد أن أعرف ما هي عاصمة اليابان". عقّبتْ: "السيد حبيب عبد الرب: سأبعث طلبك للجهات التقنية المختصة، وستستلم الردّ قريباً. شكراً، ويوماً سعيداً".
لم يخطر في بالي قبل سؤالها الأخير أن أتساءل لماذا أضاعت الآنسة سارة أكثر من نصف ساعة في الدردشة الكتابية - في زمنِ "الوقت من ذهب" - في حين كان ممكنًا الوصول إلى النتيجة نفسها بالاتصال الصوتي في أقلّ من عشر دقائق. ولا سيّما أن صوت المرأة ليس عورةً هنا، واللجوء إلى الأتمتة ليس حرصاً على وقت المستهلِك، بل لِزيادة ربح الشركات بعد تقليص عدد عمّالها.
إذ يكفي رؤية المتاعب الإضافية عند السفر بالطائرات هذه الأيام: تُلزِمك بعض الشركات بطباعة بطاقة الإقلاع في جهازٍ يتعبك بثرثرة أسئلته ويأخذ صورة لجوازك. عليك بعدها طباعة الملصقات التي توضع على حقيبة السفر، وتسجيل تأكيد سفرك على الإنترنت يوماً واحداً قبل السفر.
الحقّ أني قبل سؤال سارة الأخير فقط، لاحظت تكرر كليشيهات صيغ جملها التي تبدأ بمناداتي باسمي بشكلٍ آليٍّ رسميٍّ جدّاً: "السيد حبيب"، رغم أني حاولت أثناء الدردشة خلق سياقٍ حواريٍّ ودّيٍّ رقيق. لعلّ لذلك كان ردّي على سؤالها الأخير بإجابتين لا علاقة لهما بالسؤال، ليتأكد لي إن كانت سارة إنسانةً حقاً، أم برنامج كمبيوتر!
أعترف بوقوعي بمطب: أعرف أن الكمبيوتر وإن كان يقوم اليوم ببعض مهام في غاية الذكاء، مثل هزيمة أبطال العالم في الشطرنج والترجمة الآلية لتقرير مالي أو كتابٍ تقني بشكلٍ جيّد وخلال ثوانٍ فقط، ما زال لا يستوعب مدلول النصّ اللغوي حتى الآن (البحوث العلمية في هذا المجال في مراحل جنينية)، لا سيّما إن كان نصّاً أدبياً لا يخلو من الكلمات الملتوية التي تتعدّدُ مدلولاتها حسب سياق العبارات. ولذلك لا تُعطي الترجمة الآلية نتيجةً مُثلى في هذه الحالات.
قد يقول القارئ هنا: ثمّة برنامج كمبيوتر اسمه "دكتور" يستطيع الحوار مع مستخدمِهِ مثل دكتورٍ نفسي، ويلجأ البعض إلى الدردشة معه والفضفضة له بمشاكلهم النفسية.
أجيب: برنامج "دكتور"، والبرامج الكمبيوترية الشبيهة، لا يفهم ما يقول المستخدِم، لكنه بُرمِج بشكل ذكي لإيهامه بأنه يستوعبه، ولذلك يقع الأغبياء - أي معظم المستخدمين - في الفخ عندما يدردشون معه، كما لو كانوا بمعيّة طبيب نفسي!
فعندما تقول له مثلاً: "لديّ مشاكل مع زوجتي"، يرد: "آه، حدّثني أكثر عن عائلتك، عزيزي".
والسبب: تمّت برمجته بحيث يلتقط من كلّ جملة يقولها المستخدِم بعض الألفاظ الرئيسة؛ مثل زوجة. يردّ، بحذلقةٍ ماهرة، على المستخدمِ من وحيها بِعباراتٍ ببغاويةٍ أنيقة تمّ إدخالها مسبّقاً في البرنامج لِتحاكي لغة الطبيب النفسي. لكن إذا سألتَهُ: "ما هي عاصمة اليابان؟"، مثلاً، يقع في الفخ، مثلما وقعَتْ عزيزتي سارة.
أعترف مع ذلك بخجل بأن الدردشة مع سارة لم توحِ لي معظم الوقت بأني أناجي برنامج كمبيوتر، لكن إنسانة (بدأتُ أتخيّلُها كما أشاء، وأرتجف أحياناً من روعة ردودها وسرعتها). إذ قادت "غاليتي" سارة تفاعلنا بأسئلةٍ مهنية، تخلو الردودُ عليها من التعقيد والبلاغة واحتمالات التنوّع، كون موضوع حديثنا: "عطل إنترنت" تقنيّ خالص.
عاد الإنترنت بعدها إلى البيت، لكن كيف لي طبع قبلة شكر وعرفان على خدِّ برنامج كمبيوتر؟

المساهمون