قبس من جمركم

04 ابريل 2014
+ الخط -

لأسابيع طويلة، ظللت متهيباً هذا الموقف الذي أجدني فيه الآن، أَي العودة إلى كتابة المقالة الصحفية المقروءة، بعد هجر دام خمسة عشر عاماً، وأنا من عشت معها، من قبل، خمسة عشر عاماً أخرى، كنا فيها شاهدين على هزائم كبرى وانتصارات صغيرة، وتبادلنا الحبر والدموع، بقدر ما تبادلنا الحب والغضب.
في البدء، تهيأ لي أَن العودة أمر بسيط. لذلك، ما أن تلقيت الدعوة الكريمة لاستضافتي على صفحات "العربي الجديد" حتى وافقت، من دون أن أفكر سوى بالذي تبشّر به، ويبشر به ناشروها، ومحرروها، من فضاءات الحرية.
لكني سرعان ما اكتشفت فجوة واسعة وعميقة، تفصلني عما ظننته على مرمى ورقة. وإذ آلمني ما أنا فيه من عسر، وحاولت أَن أَعرف ما وراءه حتى أَستطيع تجاوزه، فإن أَول ما خطر في بالي هو التلفزيون؛ نعم التلفزيون باعتباره المسؤول عن خطفي من الجريدة، وتقييد يديَ، زمناً طويلاً، بما تسمى شروط الكتابة للصورة، وأَهمها التزام التعبير عمّا أَراه بأم عيني على الشاشة الصغيرة، والاقتضاب.
خطر في بالي، أيضاً، أن ألقي باللائمة على هذا التحول، أَو التطور الكبير من زمن القلم إلى زمن "الكيبورد"، وما فرضه من متغيرات، أودت بالطقوس الكتابية البسيطة التي نشأت عليها، وما كان يرافقها من قهوة وسجائر وثرثرة وبحث شاق عن المعلومات في الكتب والأرشيف، لتحل محلها الظروف الكتابية المعلبة تقريباً، وسماتها -كما تعرفون- غرفة مكيفة وكمبيوتر وبحث سهل في "جوجل" و"ياهو".
هل كان الحل، إذن، السفر في الزمان والمكان إلى حيث عشت وعملت، قبل عصر قنوات التلفزة الفضائية وثورة الاتصالات، كي أتخلص من عسر الكتابة؟ صدقوني أنني فكرت، فعلاً، في أن أدير ظهري للصور الملونة على الشاشة، وكدت أُمسك بالقلم، وأضع الأوراق والقهوة والسجائر والجرائد أمامي على الطاولة، لولا أَن تساؤلات بديهية معروفة عمَّ يمكن أن أكتب، ولمن، وكيف، قفزت فجأة، لتتراقص في وجهي بشماتةٍ لئيمة، وتجعلني أَرجع كسيراً إلى التلفزيون، ومعه الكمبيوتر، باعتبارهما بريئين من كل سوء ظني بهما، أَو من بعضه على الأقل.
هكذا، خرجت من حيرتي وأَدركت، أَعترف، أَنَّ شيئاً ما في داخلي هو الذي تغير مع تغير الواقع من حولي. كنت أَكتب، قبل نحو عقدين، لأنني كنت أريد للناس أن يروا الأمل الذي أرى، وسط ركام هزائم متلاحقة على مدى نصف قرن سبق، وكنت، ومعظم أبناء جيلي، نحلم بربيع عربي شبه مستحيل، ونبشر بقدومه، ولو بعد دهر. أما اليوم، وحيث بزغت أزهار ربيعنا المنشود فعلاً، وملأت المروج في بلدان عربية عدة، فإن الروح تكاد تنفطر قلقاً وإحباطاً، وربما يأساً إزاء مشهد الدوس عليها بأحذية العسكر، وجنازير دباباتهم.
لذلك، كان عسري الذي حدثتكم عنه ابتداء. ولذلك، أوشكت على التراجع عن تلبية الدعوة للكتابة في "العربي الجديد".. ثم حدث أَن غيرت رأيي في اللحظة الأخيرة. سأكتب، لأحث الناس على رؤية الأمل الذي أَرى وسط ركام الهزائم، مثلما كنت أَفعل قبل عشرين عاماً، بل لأستمد الأمل من أولئك الذين مازالوا يهزجون بأغاني الحرية في جنازات شهدائهم. صاروا هم الطليعة، وإِليهم أقول ما قالت شاعرة فلسطين، فدوى طوقان، لأهل يافا؛ ها أنا يا أحبائي هنا معكم، لأقبس منكمُ جمرة، لآخذ يا مصابيح الدجى من زيتكم قطرة لمصباحي.
 
 
 

 

دلالات
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني