قانون التعليم في المغرب.. موقف حزب العدالة والتنمية وتداعياته

قانون التعليم في المغرب .. موقف حزب العدالة والتنمية وتداعياته

05 اغسطس 2019
+ الخط -
أقر مجلس النواب المغربي يوم 22 تموز/ يوليو 2019 مشروعَ قانونٍ من شأنه أن يمهد الطريق نحو تعزيز مكانة اللغة الفرنسية رسميًا في المدارس المغربية، وهو تحولٌ عن سياسة التعريب التي استمرت أكثر من أربعة عقود. وصوّت إلى جانب "القانون الإطار للتعليم" 241 عضوًا في المجلس المكوّن من 395 عضوًا، بينما عارضه أربعة نواب، وامتنع 21 آخرون عن التصويت. لقد أثار التصديق على القانون جدلًا كبيرًا، وفتح الباب على أسئلةٍ عن الأسباب التي دعت حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة، ويملك الكتلة الأكبر في البرلمان (125 نائبًا)، لتمرير قانونٍ يتعارض مع فكره ومرجعيته وبرنامجه. يضاف إلى ذلك أن القانون يتعارض مع أهم توصيات علم التربية التي تذهب إلى أن التمسّك باللغة الأم في التعليم هو الاستراتيجية التربوية الأكثر نجاعة، والتي تؤكد أهمية بناء الشخصية الوطنية وثقافتها، والانفتاح على لغة المنجزات العلمية المعاصرة، وهي اللغة الإنكليزية.
عودة الفرنسة!
أدخل القانون الإطار للتعليم تغييراتٍ مهمةً على الشأن التعليمي المغربي، أبرزها نصه على مبدأ التناوب اللغوي، وتعليم بعض المواد باللغات الأجنبية. وقد تمّ اعتماد اللغة الفرنسية بموجب القانون الجديد لغةً لتدريس العلوم والرياضيات والمواد التقنية. وتدّرس هذه المواد حاليًا باللغة العربية حتى بلوغ المدرسة الثانوية، ولكنّ ذلك يتوقف في التعليم العالي الذي تهيمن عليه اللغة الفرنسية.
أثار القانون جدلًا واسعًا على مستويين: الأول، رفضه من تياراتٍ سياسيةٍ ونقابيةٍ وجمعياتٍ 
حقوقيةٍ مغربيةٍ عديدة، اتهمت الحكومة بمحاولة "الإجهاز" على اللغة العربية، وإضعاف موقعها ودورها في النظام التعليمي، وتقوية نفوذ التيارات الفرنكفونية في أجهزة الدولة. والثاني، تسهيل الكتلة البرلمانية "القوية" عدديًا لحزب العدالة والتنمية التصديق على القانون في البرلمان؛ إذ صوّت نوابٌ في الحزب إلى جانب القانون، بما ينسجم مع موقف الأغلبية الحكومية. وإذا كان الرفض ضمن المستوى الأول مفهومًا، نظرًا إلى عمق التحول الذي يحمله القانون لجهة تخلّيه عن سياسة تعريب التعليم التي تبنّاها المغرب منذ عام 1977، فإن تمرير القانون في البرلمان طرح أسئلةً حول دوافع حزب العدالة والتنمية من وراء ذلك؛ إذ كان يُنتظر منه على الأقل الامتناع وعدم التصويت لصالح مشروع القانون، انسجامًا مع مواقفه الداعية إلى الحرص على اللغة العربية، لما لها من مكانة وتأثير في ثقافة الحزب، ورفضه سياسة الفرنسة.
موقف حزب العدالة والتنمية
يحتاج فهم موقف حزب العدالة والتنمية من القانون المذكور إلى الوقوف على التحولات في خطابه وسلوكه والتغييرات البنيوية والتنظيمية التي طالته منذ ترؤسه الحكومة الأولى عام 2011، و"سيطرته" منذ الانتخابات المحلية عام 2015 على أغلبية المدن والبلديات، ثم فوزه مرة ثانية في الانتخابات العامة وقيادة التحالف الحكومي منذ عام 2016. وقد أدّى السياق الإقليمي المرتبط بثورات الربيع العربي، الذي تحوّل في صيغته المغربية إلى "حركة 20 فبراير"، دورًا حاسمًا في "المرونة" التي أبداها القصر تجاه الحزب، والقبول بقيادته الحكومة بوصفه الحزب الأكبر في البرلمان. كما أدّى الرصيد السياسي والانتخابي والاجتماعي الذي راكمه الحزب إبّان تجربته في المعارضة دورًا مماثلًا جعله أكثر ميلًا إلى المساومة والقبول بالحلول الوسطى. لذا، ظل الحزب حريصًا على العمل ضمن الهوامش والخيارات الكبرى للدولة، والتي يرسم معالمها الملك، وإن حاول أن يحافظ في بعض المناسبات على هامشٍ من الاستقلالية، خاصة عندما يتصل الأمر بهويته ومواقفه من القضايا التي تميزه.
بناءً عليه، كان منتظرًا أن يتخذ الحزب موقفًا معرقلًا للقانون، على الرغم من أنه يدخل ضمن الرؤية الاستراتيجية للإصلاح 2015 - 2030 التي أعدها المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، والذي يترأسه المستشار الملكي عمر عزيمان. لذلك، على الرغم من التوجه المنضبط للحزب في إطار التوجهات الملكية، فإن سلوكه فيما خص قانون "فرنسة التعليم" يمكن وصفه بالتحول المهم؛ إذ انتقل من مستوى المناورة ومحاولة العرقلة إلى مستوى الموافقة والتصديق عليه، وهو موقفٌ عُدَّ صدمةً لبعضهم. وثمّة مؤشرات تبين أن عوامل أخرى ربما
 تدخلت لتغيّر موقف الحزب، أولها تجميد مشروع القانون في البرلمان عدة مرات، وذلك بسبب مقاطعة فريق العدالة والتنمية لاجتماعات رؤساء الفرق النيابية من أجل تحديد تاريخ للمناقشة والتصويت على القانون، ثم تراجُعه عن التوافق مع بقية مكونات الأغلبية الحكومية، بل ودعوته إلى توافقٍ ثانٍ حول مشروع القانون. لكن، وعلى نحو مفاجئ، توصل أعضاء لجنة التعليم والثقافة والاتصال بمجلس النواب إلى اتفاقٍ على دعوة إلى الانعقاد والتصويت على المشروع، بهدف إحالته على الجلسة العامة للتصويت.
أما العامل الثاني، فكان واضحًا في وجود تيارين على المستوى الداخلي لحزب العدالة والتنمية: أولهما يتزّعمه الأمين العام السابق عبد الإله بنكيران، الذي اتخذ موقفًا معارضًا للقانون، واصفًا القرار الرسمي للحزب، بشأن التصويت لصالحه، بأوصاف قاسية (خطأ جسيم، خطيئة كبيرة، تنازل كبير..). وكان لتصريحات بنكيران تداعيات مهمة، حيث أقدم رئيس الفريق البرلماني للحزب، إدريس الأزمي، على الاستقالة من رئاسة هذا الفريق، وتغيّب 25 عضوًا برلمانيًا من الحزب عن الجلسة العامة للتصويت على القانون. كما راجت عريضة سياسية داخل الحزب، تطالب الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، بتحمّل مسؤوليته، وفتح المجال أمام أعضاء الحزب للتعبير عن مواقفهم بحرية، ووقف مسلسل التنازلات. أما التيار الثاني في الحزب فهو الذي يمثله العثماني الذي مارس ضغوطًا شديدةً على نواب الحزب، وطالبهم بضرورة الخضوع لقرار المؤسسات، كما أشهر ورقة التزكيات في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة وسيلةً للضغط عليهم للامتثال، وهو ما أشار إليه بنكيران بوضوح، عندما دعا الأمانة العامة إلى عدم معاقبة البرلمانيين الذين لم يصوّتوا للقانون أو تغيبوا عن جلسة 
التصويت بحرمانهم من التزكية في الانتخابات المقبلة، في حين أشادت الأمانة العامة للحزب بسلوك النواب الذين حضروا الجلسة وصوتوا الى جانب القانون، مع أنه من الطبيعي أن يلتزم هؤلاء النواب بقرار حزبٍ طالما "افتخر" بقوته التنظيمية وتماسكه وإجماعه الداخلي.
التداعيات على مستقبل الحزب
إذا كان رئيس الحكومة سعد الدين العثماني وتياره تمكّنا من الضغط على الفريق البرلماني للحزب من أجل التصويت لصالح قانون التعليم، وعدم تعريض الأغلبية الحكومية لأزمة توافق جديدة، فإن تداعيات تمرير هذا القانون تتجاوز اللحظة التشريعية إلى التأثير سلبيًا في علاقة الحزب بقواعده الاجتماعية، من دون كسب قواعد اجتماعية جديدة من جهة، وتكريس واقع الممارسة الحزبية والسياسية في المغرب، ودور المؤسسة الملكية في توجيه الحكومة وضبطها، حتى في قضايا مثل سياسات التعليم، بغض النظر عن التفويض الشعبي الذي تملكه للحكم، من جهة أخرى.
علاقة الحزب بقواعده الاجتماعية
تتشكل القاعدة الاجتماعية والانتخابية لحزب العدالة والتنمية أساسًا من الطبقة المتوسطة، والفئات الاجتماعية التي تعاني هشاشةً اقتصادية واجتماعية. وعلى الرغم من أن الخطاب الانتخابي والسياسي للحزب ظل يحاول البقاء قريبًا من انشغالات هذه الفئات واهتماماتها، فإن تجربة الحزب في العمل الحكومي دفعته إلى تبنّي إصلاحاتٍ لا تتفق بالضرورة مع مصالح هذه الفئات وتطلعاتها، ومنها على سبيل المثال إصلاح نظام التقاعد، وإصلاح نظام المقاصّة، وتحرير أسعار المحروقات وغيرها، فضلًا عن القبول بترتيبات تشكيل الحكومة الثانية، بعد إعفاء بنكيران وتكليف العثماني، وما صاحب ذلك من انتقاداتٍ واسعة وُجهت إلى الحزب حول رضوخه لضغوط مورست عليه، والتي لم تحترم "الإرادة الشعبية" التي منحت الحزب بزعامة 
بنكيران نحو 32% من مقاعد البرلمان (125 من أصل 395 عضوًا).
وبهذا، لا تشكّل موافقة الحزب على قانون التعليم استثناءً في النهج البراغماتي الذي بات يتبنّاه خطابًا وممارسة. والبراغماتية هنا ليست في خدمة برنامج، بل في خدمة البقاء في الحكومة في حد ذاته. ومع ذلك، ارتبط موقف الحزب، هذه المرة، بقضية متصلة بالفرنسة، وهو ما أثار موجة غضب واسعة في قواعده وبين أنصاره، وهي الفئة المشكّلة أساسًا من أعضاء حركة التوحيد والإصلاح (الجناح الدعوي للحزب)، وبعض التيارات السلفية الوسطية، إضافة إلى قاعدة شعبية واسعة تميل وجدانيًا إلى خطاب الحزب ونهجه، وعلمانيين كثيرين لا يرون الفرنسة نقيضًا للاستقلال الوطني والشخصية المغربية.
يمكن أن يترك هذا الوضع انعكاسات مهمة على الحزب: أولها، الانفصام الهوياتي الناتج من التباين بين مرجعية الحزب والسياسات والبرامج الحكومية التي تتعارض أحيانًا مع مبادئه. وثانيها، ذهاب قيادة الحزب بعيدًا في ما هو مستعد لعمله من أجل البقاء في السلطة؛ الأمر الذي قد يعرّض تماسك الحزب التنظيمي للخطر، علمًا أن هذا أحد عناصر قوته.
العلاقة مع القصر
النظام السياسي المغربي ملكي، ومن الطبيعي أن يتربّع فيه الملك على قمة هرم السلطة في البلاد. أما الأحزاب السياسية، فينظر إليها باعتبارها أداةً داعمةً للشرعية السياسية للمؤسسة الملكية، لا شريكًا في السلطة. ولكن الإصلاحات أفردت هامشا واسعا للحكومة في تسيير أمور البلاد الداخلية الاقتصادية والاجتماعية. وعندما قرّرت المؤسسة الملكية إقرار قانون جديد للتعليم ضمن مقتضيات الرؤية الاستراتيجية 2015 - 2030، من دون الأخذ في الاعتبار 
مخرجات النقاش السياسي والمجتمعي المواكب للمسار التشريعي، فإنها في الواقع كانت تتصرّف وفق فهمها طبيعة النظام السياسي الذي تقوده، والعلاقة مع فرنسا التي تعزّزها الخصومة مع الجزائر. ولكن حزب العدالة والتنمية لم يكن مجبرا على الموافقة، إلا اذا اعتبر ثمن عدم الموافقة التضحية بقيادته للحكومة.
بالنسبة إلى حزب العدالة والتنمية، يمكن القول إن المقاومة التي أبداها بخصوص مشروع القانون في بادئ الأمر لم تصمد كثيرًا أمام محاولات احتوائها من اتجاهين: جاء الأول من داخل "العدالة والتنمية" نفسه الذي اتجه نحو تقليص مساحة توظيف المرجعية الدينية في برامجه وسياساته والتخلي التدريجي عن الخطاب الهوياتي؛ بهدف إقناع الملكية بولائه لها. والثاني من الملكية التي لا تقبل، بشكل عام، بوجود "منافس" لها في ساحة المرجعية الدينية، وخصوصا من حزبٍ يتمتع بقاعدة شعبية واسعة. لذلك، ما جرى يعد نجاحا لمن يملك استراتيجية إنهاك الحزب سياسيًا واستنزافه شعبيًا من خلال الدفع نحو تمرير قوانين وإصلاحات لا تتلاءم والهوية الأيديولوجية للحزب، وكذلك بإحراجه سياسيًا وشعبيًا أمام قواعده أملًا في تقليص فرصه انتخابيًا.
خاتمة
بعد أربعة عقود من تعريب التعليم، عاد المغرب إلى اعتماد سياسة لغوية جديدة تعزّز دور اللغة الفرنسية في النظام التعليمي على حساب اللغة العربية، في وقتٍ تتعالى أصوات أكاديميين ومتخصصين تدعو إلى التمسك باللغة الأم، والانفتاح على لغات البحث العلمي الأكثر تداولًا، خصوصا اللغة الإنكليزية. ويؤكد ذلك على وجود نفوذ سياسي قوي لتيار فرنكفوني في المغرب، وعلى عمق الارتباط السياسي والاقتصادي للمغرب بالدولة المستعمِرة السابقة. وقد جرى هذا الأمر حاليًا من خلال تغطية سياسية وتشريعية وقانونية من حزب العدالة والتنمية، ذي المرجعية الإسلامية الذي يترأس الحكومة، والذي وجد نفسه في مواجهة مباشرة مع أنصاره وقواعده الاجتماعية. لقد دخل الحزب في معركةٍ كلفته الكثير، ولم تكسبه شيئًا، خصوصا على صعيد صدقيته، قبل سنتين فقط من الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.