قانون الارتداد الديمقراطي في المغرب

قانون الارتداد الديمقراطي في المغرب

04 مايو 2020

في شارع في مدينة سلا قرب الرباط (26/4/2020/فرانس برس)

+ الخط -
لو كان هذا القانون موجوداً في سنة 2011 لما ولدت حركة 20 فبراير في المغرب، ولما كان دستور فاتح يوليوز (الأول من يوليو/ تموز) 2011، ولما صارت انتخابات تشريعية توصل حزب العدالة والتنمية إلى قيادة شراع الحكومة المغربية... لا يزال مشروع قانون، ولكن مجلس الحكومة المغربية صادق عليه في 19 مارس/ آذار الماضي، ولم يتم تسريب فقراته إلا بعد شهر من هذه المصادقة.
إنه مشروع القانون الذي أحدث ضجة سياسية في المغرب، واستطاع أن يمزّق كمّامة الصمت، في ظل الحجْر الصحي الذي فرضه كورونا. الحديث هنا عن مشروع القانون رقم 22.20 المتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة. يهدف، مبدئياً حسب الرواية الرسمية، إلى سدّ القصور التشريعي الرامي إلى ردع بعض السلوكات المرتكبة في وسائل التواصل الاجتماعي، وملاءمة القانون المغربي مع المعايير الدولية، وتقوية آليات مكافحة الجريمة الإلكترونية.
مشروع أريدَ له أن يمر مرور الكرام تحت ستار قانون الطوارئ الصحي، هدفه المُبيَّت تكميم تعبير المغاربة، غرضه تقنين حجْر تعبيري، غايته تقليص حرية رأي، مقصده معاقبة إبداء فكر معارض، ومرامه قمع مبادرات المجتمع المدني المطالبة بالعدالة الاجتماعية، منتهاه الرجوع بالمغرب إلى الوراء، والقيام بارتداد ديمقراطي صريح، يخالف مضمون الفصل 25 من الدستور المغربي الذي ينص على كفالة حرية الفكر والرأي والتعبير بكل أشكالها.
أولاً، تجلّى للعيان أن هذا المشروع لم يحظ بإجماع داخل المجلس الحكومي، بل يقال إن الرجل الثاني في الحكومة، وزير الدولة المكلف بحقوق الإنسان والعلاقات مع البرلمان، ووزير العدل 
والحريات سابقاً، مصطفى الرميد، من حزب العدالة والتنمية، عارضه بشدة، قبل أن ينشر توضيحاً ينفي تسريب الوثيقة، بعد اتهامه بذلك، مبيناً أنها لا تكتسي طابع السرية، ويؤكد أن الصيغة المتداولة اعترض عليها أعضاء في الحكومة. ولذلك تبقى "غير نهائية"، بحسب قوله.
هذا هو المنطوق، ولكن المفهوم شيء آخر، فخروج الوثيقة بهذا الشكل ظهر كأنه طلب استجداء، ونوع من الاستقواء بالرأي العام المغربي وبالمجتمع المدني، لعدم تمرير هذا القانون، ثم هو إرادة لوضع الفاعل السياسي المغربي أمام مسؤولياته، فمعظم الأحزاب المغربية استنكرت ما ورد في مضمون هذا القانون الذي جاء به وزير العدل، محمد بن عبدالقادر، المنتمي إلى حزب الاتحاد الاشتراكي، الحزب الذي كان رفض مشاركته في الحكومة سبب إقالة رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، وعدم استطاعة الأخير تشكيل حكومته في 2017.
ثانياً، يتضمّن مشروع القانون مواد قانونية وعقوبات زجرية يعوزها المشرّع المغربي، خصوصاً التي تعاقب جرائم الابتزاز المالي أو الجنسي، أو تلحق الضرر بالأشخاص الذاتيين، مثل نشر الحوارات أو الصور ذات الطابع الجنسي وغيرها، وهي قوانين سيتفهمها عديدون من المغاربة ومن المتضررين. ولكن هذا القانون مثل السم في العسل. مثلاً، في جريمة التشنيع أو التشهير، يعلم الكل أن بعض الأجهزة تقوم بذلك علانية، وضررها في حق ضحاياها أكبر بكثير مما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها لن تخضع لهذا القانون، لأنها تنشر 
"جرائمها" حسب مفهوم مشروع القانون في مواقع إلكترونية يجري عليها قانون الصحافة، وبالتالي تبقى في حصانةٍ مهما نشرت.
ثالثاً، يشتمل هذا القانون على مواد أقل ما يقال عنها إنها غير ديمقراطية، وتحرم المواطن من التعبير عن رأيه، ثم تعتبر سوء النية هي الأصل في كل الأمور، وتجعل المواطن يدخل في بعض صور "العصيان المدني"، ويرتكب جرماً يعاقب عليه القانون مثل الدعوة إلى مقاطعة بعض المنتوجات، كما ورد ضمن المادة 14 "يعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى 3 سنوات وغرامة من 5000 إلى 50.000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين فقط، من قام عمداً عبر شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة بالدعوة إلى مقاطعة بعض المنتوجات أو البضائع أو الخدمات أو القيام بالتحريض علانية على ذلك".
هذه المادة بالذات لا يمكن أن تفهم إلا باستحضار حملة المقاطعة الواسعة والشرسة التي شنّها رواد التواصل الاجتماعي سنة 2018 ضد ثلاث شركات كبرى، منها "أفريقيا غاز" لتوزيع المحروقات، والتي يمتلكها رئيس حزب الأحرار، الشريك الحكومي لحزب العدالة والتنمية، والرجل القوي الذي لم يشأ التحالف مع بنكيران، في مرحلة ما سمي "البلوكاج" أو الانسداد السياسي.
ولم يكتف مشروع القانون بوضع عقوبة ضد جريمة المس بالنظام العام الاقتصادي، بل قرّر عقوبات حبسية تصل إلى سنتين، في حق كل من نشر عمداً أو روّج محتوى إلكترونياً يتضمّن خبراً زائفاً، وبالتالي، ومع هذا القانون، إن مُرّر، سيصبح كل مغربي معرّضاً للعقوبة الحبسية أو الغرامة المالية إذا قام بعملية "البارطاج" (شير)، أي مشاركة أي خبر زائف، ولو عن 
حسن نية.
وإذا كانت الانتقادات التي طاولت هذا القانون داخل المغرب صبت معظمها، إن لم أقل جميعها، في انتقاد مواد المقتضيات الجزرية الواردة في الباب الثالث، وجيء على بعضها آنفاً، إلا أن ما ورد في الباب الثاني، المتعلق بنظام تزويد خدمات شبكات التواصل الاجتماعي، لا يقل خطورة، إذ أنّ المادة 8، والتي غُفل عنها، توجب على مزوّدي الإنترنت "حذف أو حظر أو توقيف أو تعطيل الوصول إلى كل محتوى إلكتروني غير مشروع"، كما يؤكد الاحتفاظ بالمحتوى الإلكتروني غير المشروع دليلاً على ذلك أربع سنوات.
السؤال هو، ما هو المشروع من غير المشروع في نظر السلطة في المغرب؟ ومن هنا يمكن السؤال: هل الدعوات التي قامت بها حركة 20 فبراير للخروج في مظاهرات عارمة في كل المدن المغربية سنة 2011 كانت مشروعة؟ ماذا لو كان هذا القانون موجوداً آنذاك؟ ثم هل الدعوة إلى مظاهراتٍ تطالب بمزيد من الديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، إذا رُفض الترخيص لها، مشروعة أم لا؟ هل ترويج خبر يحذر من خطر ما يدخل في هذا الباب، إذا تبين أن الخبر غير صحيح؟ هل ينتظر المغربي رؤية الدم بعينه وتساقط القتلى أمام عينيه في حادث إرهابي لا قدّر الله، ليتأكد أنه لن يسقط تحت طائلة هذا القانون؟ أسئلة كثيرة، على الحكومة المغربية الرد عليها. وبالتالي، فإن المصادقة على هذا القانون في وقت الحجْر الصحي زادت الطين بلة، فالبرلمان المغربي ونوابه الذين ينتظرون أن يحال المشروع عليهم لا يستطيع أن يقوم بدوره كاملاً في هذه الظروف الخاصة.
ختاماً، معروفٌ تاريخياً أنه، إبّان المحن الاجتماعية والحروب والأوبئة، تصبح الديمقراطية على المحكّ، وتنقص الحريات، وتستغل السلطة الأزمات للتوغل أكثر وزيادة سيطرتها، وما هذا القانون الذي وجب سحبه جملة وتفصيلاً إلا تعبيراً عن هذه الإرادة الخفية للتحكّم الحازم في ما بقي من منصات التعبير الحر.. إنها إرادة ردَّة وتقييد للحريات، مع رغبة في التراجع والارتداد الديمقراطي في المغرب.
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط