قانون "الأهوال" الشخصية في لبنان

قانون "الأهوال" الشخصية في لبنان

06 مارس 2019
+ الخط -
ما كادت وزيرة الداخلية في لبنان، ريا الحفّار الحسن، تعلن أنها ستنظر في تسهيل إجراءات عقود الزواج المدني التي تُعقد خارج لبنان، كتركيا وقبرص وفرنسا، وأنها لا تمانع في إصدار قانون اختياري غير ملزم للأحوال الشخصية، حتى هاج ما هبّ ودب من الجمعيات الإسلامية التي لا يعرف الناس عنها أي خبر إلا في مثل هذه الحالات الاحتجاجية. وهذه الجمعيات تعتاش على المال العام، من غير أن يكون لها أي جهد ثقافي أو تنموي أو رعائي، فهي، بهذا المعنى، صورةٌ عن النهب المتمادي الذي ترتع فيه طوائف لبنان المتعدّدة. وكثيرون يتذكّرون مفتي الجمهورية اللبنانية السابق، محمد رشيد قباني، وهو يهبط سُلّم الطائرة التي أقلته من السعودية في سنة 1998 وهو يطنطن بتكفير كل مسلم يقبل قانون الزواج المدني الاختياري. وحجة هؤلاء "الغيورين على الدين" أن الزواج المدني مخالفٌ للشريعة الإسلامية، كأن لبنان يُحكم بالشريعة الإسلامية. ثم كيف يخالف ذلك القانون الشريعة الإسلامية، وهو معمول به في 
تركيا التي يحكمها إسلاميون؟ ومهما يكن الأمر، فإن جميع القوانين في لبنان، وفي الدول التي تسير وفقاً للقوانين المعاصرة، لا تتطابق مع الشريعة الإسلامية؛ فالسارق يُسجن ولا تقطع يده، و"الزاني" يُحكم ولا يُرجم، وكذلك "الزانية"، والجزية على غير المسلمين مرفوعة، والخمر مباح ولو بشروط. 
في أي حال، ثمّة فارق بين مجتمع (Society) وجماعة (Community)، ولبنان طرازٌ من الدول التي لم تتطوّر لتصبح مجتمعاً حديثاً، بل ظل مجرد نطاقٍ جغرافي تتعايش فيه، وتتحارب أحياناً، جماعاتٌ شتى من الطوائف، والطوائف في لبنان ليست جماعاتٍ أهلية، بل أشباه أمم.
ولنتذكّر أيضاً الرئيس إلياس الهراوي، حين اقترح قانوناً اختيارياً للأحوال الشخصية الذي يتضمن فكرة الزواج المدني، فقد كان يعلم أن ذلك يقارب المُحال في لبنان، لكنه كان يريد المناورة وإحراج المسلمين. وحين اقترح رئيس مجلس النواب، نبيه بري، إلغاء الطائفية السياسية كان مثله يبغي المناورة وإحراج المسيحيين وتخويفهم بالأكثرية العددية للمسلمين. ومن طرائف الحياة السياسية في لبنان أن الوزير بهيج طبارة، المتزوج زواجاً مدنياً، وقف ضد مشروع قانون الزواج المدني، حين عُرض على التصويت في مجلس الوزراء.
حبذا لو تذكّر المسلمون اللبنانيون العلاّمة الشيخ عبد الله العلايلي الذي أفتى بزواج المسلمة من كتابيّ، ولم يتجرأ أحد على الرد عليه رداً علمياً، بل تجرأ كثيرون عليه بالشتائم والسباب، وهي لغة غير العاقلين، فالعلامة العلايلي لم يتردد في الإفصاح بما يلي: "درج الفقهاء، بشكل إجماع، على القول بعدم حليّة الزواج بين كتابي ومسلمة. والإجماع في هذه المسألة بالذات نوعٌ من الإجماع المتأخر الذي لا ينهض حجة إلا إذا استند إلى دليل قطعي" (العلايلي، أين الخطأ؟ بيروت: دار الجديد، 1992، ص 114).
تحول قوانين الأحوال الشخصية السائدة حالياً في لبنان، أو العراق على سبيل المثال، دون الاندماج الاجتماعي، وتجعل الأسر المختلفة عقيدياً متباعدةً، ومنغلق بعضها على بعض في الحياة اليومية وفي الشؤون العامة، إلا في الحد الأدنى من العيش المتجاور، فأحكام قانون الأحوال الشخصية في العراق تجعل القاصر المسيحي الذي تحوّل أحد والديه إلى الإسلام مسلماً حكماً، بينما كانت القوانين السابقة في عهد الرئيس صدام حسين تنصّ على أن يظل القاصر مسيحياً إلى حين بلوغه الثامنة عشرة. وحينذاك يقرّر بنفسه الدين الذي سيعتنقه.
* * *
في معمعان هذا التفسخ الاجتماعي الذي يغمر المجتمعات العربية اليوم، وفي خضم الرثاثة الاجتماعية التي صعدت إلى مواقع القرار السياسي، والتي تمثلها خير تمثيل المليشيات الطائفية في لبنان والعراق واليمن، لا تتردّد المجموعات السياسية الشعبوية في الإفصاح عن عدائها 
الديمقراطية وقوانين الأحوال الشخصية الحديثة التي يجب أن تكون ملزمة لجميع المواطنين
وليست اختيارية قط. أما مَن يرغب في أن يزكّي زواجه عند الشيخ أو لدى القسيس، وأن يعقد زواجاً دينياً موازياً، فهذا من حقوقه، وهو حرٌّ في ذلك. وفي المقابل، على الديمقراطيين العرب أن يناضلوا في سبيل ديمقراطية علمانية مؤسسة على قاعدة المواطنة المتساوية، وهي أساس بناء الدولة الحديثة، وإلا فإن قوانين الأحوال الشخصية السارية اليوم ستُفضي، بلا شك، إلى أهوال اجتماعية لا يمكن التكهن بها دائماً. والديمقراطيون العرب أمام اختيار تاريخي في هذا الميدان: إما عبد الله العلايلي أو الانضواء بين قطعان أبو بكر البغدادي وأبو محمد الجولاني وأيمن الظواهري وأضرابهم.