01 نوفمبر 2024
في واقع حلف شمال الأطلسي
مثلت القمة السبعون لحلف شمال الأطلسي (الناتو) دليلاً آخر على أن هذا التحالف الغربي، أساساً، يصارع من أجل البقاء متماسكاً، فضلاً عن إعادة تعريف دوره وأهميته. وكان لافتاً أن عدداً من أهم أعضاء الحلف التسعة والعشرين لم يحاولوا إخفاء خلافاتهم أمام كاميرات التلفزة خلال القمة التي اختتمت أعمالها في لندن، أول من أمس الأربعاء. وعلى الرغم من أن البيان الختامي للقمة نص على اتفاق الدول الأعضاء على التصدّي للتهديد الروسي، والتأهب للصعود الصيني، ضمن سياق محاولة تأكيد أهمية الحلف، وإعادة تعريف دوره، إلا أن ذلك لا يعني أن الخلافات البنيوية في الحلف قد حُلّت، أو أنها في طريقها إلى الحل، وإنْ لم يعن ذلك أيضاً أن الحلف في طريقه إلى الاندثار قريباً. أما اضمحلال الدور، فمسألة أخرى، وهي قائمة عملياً.
من الناحية الإطارية، الولايات المتحدة هي الدولة المركزية في الحلف، وعموده الفقري ورافعته الأساس منذ تأسيسه عام 1949. وقد تعاظمت قيمة الحلف وأهميته في خضم الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي الآفل، خصوصاً بعد تشكيل حلف وارسو عام 1955، إلا أن الحلف واجه عقباتٍ منذ بواكير نشأته. من ذلك الشكوك الأوروبية، في الماضي، بمدى التزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها أمام عدوانٍ سوفييتي محتمل، وهو ما دفع دولة، مثل فرنسا، إلى تطوير ردع نووي خاص بها، ووصل الأمر عام 1966 إلى حد سحب الرئيس شارل ديغول القوات العسكرية الفرنسية من قيادة "الناتو" والطلب إلى قوات الحلف غير الفرنسية مغادرة بلاده، من دون الانسحاب من الحلف كلياً، وهو الحال الذي استمر حتى عام 2009. وعلى الرغم من انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو عام 1991، إلا أن "الناتو" بقي قائماً، ولعب دوراً
محورياً في محطّات كثيرة، مثل: إخراج القوات العراقية من الكويت عام 1991، ثمَّ في يوغسلافيا عام 1999 بذريعة وقف العدوان الصربي على كوسوفو، وكذلك بعد هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001 في نيويورك وواشنطن، وما تبعها من غزو أفغانستان تحت لافتة "محاربة الإرهاب". كما تدخل "الناتو" في الصراع الليبي عام 2011 ضد نظام معمر القذافي.
لم تقتصر العقبات في وجه حلف الناتو، أو على الأقل أمام فاعليته، على بواكير نشأته، بل هي عقبات مستمرة. من ذلك أنه انقسم حول الغزو الأميركي - البريطاني للعراق عام 2003، وكانت فرنسا وألمانيا من أهم الدول المعارضة ذلك الغزو. وعندما اجتاحت القوات الروسية شرق أوكرانيا، وضمت إليها شبه جزيرة القرم عام 2014، تحرّك حلف الناتو ببطء وتردّد، سواء أميركياً أو أوروبياً، وهو ما جعل دولاً في الجناح الشرقي للحلف تخشى على مصيرها، مثل بولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا. أيضاً، لم تجد تركيا دعماً حقيقياً من "الناتو" أمام التهديدات الروسية، عندما أسقطت دفاعاتها الجوية طائرة حربية تابعة لها، عام 2015، قالت أنقرة إنها اخترقت أجواءها. وتكرّر الأمر مرات ومرات، مع تخلي الحلف، بل ووقوفه ضد تركيا، في حربها مع الانفصاليين الأكراد في شمال سورية، وهو ما دفع أنقرة إلى الاقتراب أكثر من روسيا، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، والموقف الغامض للحلف منها. وتندرج صفقة صواريخ إس-400 التركية - الروسية، والتي يعارضها الحلف، ضمن سياق تشكك تركيا فيه وبالتزامه بأمنها.
في المقابل، لم تكن الولايات المتحدة أقل ضجراً من أعضاء آخرين في "الناتو"، خصوصاً أنها
تطالب، منذ سنوات طويلة، بأن تضطلع الدول الأعضاء بمسؤولياتٍ أكبر فيه، وأن لا تلقي العبء الأكبر على عاتقها فحسب. وكان الحلف قد أقر في قمته في ويلز في بريطانيا عام 2014، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، بالإضافة إلى أمور أخرى، التزام أعضائه مجدّداً بإنفاق نسبة 2% من ناتج دولهم الإجمالي على الإنفاق العسكري، وهو الأمر الذي لم يلتزم به أعضاء كثيرون إلى اليوم. وإذا كانت واشنطن اكتفت بالتعبير عن الضجر في العقود الماضية، فإن وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة مطلع عام 2017 أحدث تغييراً حقيقيا في السلوك الأميركي، إذ لم يتردّد ترامب في وصف الحلف بأنه منظمة "عفا عليها الزمن"، ثمَّ خفف من حدّة لهجته، وبدأ حملة ضغط كبيرة على أعضائه للوفاء بنسبة الـ 2%.
باختصار، الجدل الذي ثار حول وصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الحلف بأنه "ميت دماغياً"، بسبب هجوم تركيا، العضو فيه، على الفصائل الكردية المتمرّدة في شمال سورية، والتي يعتبرها "الناتو" حليفاً في الحرب على الإرهاب، إنما هو تأكيد لواقع قائم، إذ إن كثيرين من أعضائه يبحثون عن مصالحهم الخاصة بعيداً عنه. وعلى الرغم من أن ترامب يمثل أحد أهم أسباب الأزمة الحالية للحلف، لناحية تراجع التزام الولايات المتحدة الحازم به، إلا أن الحقيقة أن الدول الأعضاء في الحلف، خصوصاً الأوروبية، بل وحتى الولايات المتحدة نفسها، بحاجة إلى تماسكه إن أرادوا فعلاً التصدّي لروسيا والصين واحتواءهما، دع عنك أخطاراً أخرى تهدّد أمنهم القومي.
لم تقتصر العقبات في وجه حلف الناتو، أو على الأقل أمام فاعليته، على بواكير نشأته، بل هي عقبات مستمرة. من ذلك أنه انقسم حول الغزو الأميركي - البريطاني للعراق عام 2003، وكانت فرنسا وألمانيا من أهم الدول المعارضة ذلك الغزو. وعندما اجتاحت القوات الروسية شرق أوكرانيا، وضمت إليها شبه جزيرة القرم عام 2014، تحرّك حلف الناتو ببطء وتردّد، سواء أميركياً أو أوروبياً، وهو ما جعل دولاً في الجناح الشرقي للحلف تخشى على مصيرها، مثل بولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا. أيضاً، لم تجد تركيا دعماً حقيقياً من "الناتو" أمام التهديدات الروسية، عندما أسقطت دفاعاتها الجوية طائرة حربية تابعة لها، عام 2015، قالت أنقرة إنها اخترقت أجواءها. وتكرّر الأمر مرات ومرات، مع تخلي الحلف، بل ووقوفه ضد تركيا، في حربها مع الانفصاليين الأكراد في شمال سورية، وهو ما دفع أنقرة إلى الاقتراب أكثر من روسيا، خصوصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016، والموقف الغامض للحلف منها. وتندرج صفقة صواريخ إس-400 التركية - الروسية، والتي يعارضها الحلف، ضمن سياق تشكك تركيا فيه وبالتزامه بأمنها.
في المقابل، لم تكن الولايات المتحدة أقل ضجراً من أعضاء آخرين في "الناتو"، خصوصاً أنها
باختصار، الجدل الذي ثار حول وصف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الحلف بأنه "ميت دماغياً"، بسبب هجوم تركيا، العضو فيه، على الفصائل الكردية المتمرّدة في شمال سورية، والتي يعتبرها "الناتو" حليفاً في الحرب على الإرهاب، إنما هو تأكيد لواقع قائم، إذ إن كثيرين من أعضائه يبحثون عن مصالحهم الخاصة بعيداً عنه. وعلى الرغم من أن ترامب يمثل أحد أهم أسباب الأزمة الحالية للحلف، لناحية تراجع التزام الولايات المتحدة الحازم به، إلا أن الحقيقة أن الدول الأعضاء في الحلف، خصوصاً الأوروبية، بل وحتى الولايات المتحدة نفسها، بحاجة إلى تماسكه إن أرادوا فعلاً التصدّي لروسيا والصين واحتواءهما، دع عنك أخطاراً أخرى تهدّد أمنهم القومي.