في مديح النخب الشبابية

في مديح النخب الشبابية

23 يوليو 2016
المستقبل للشباب (Getty)
+ الخط -
"إن أفضل حجة ضد الديمقراطية هي حوار لمده 5 دقائق مع ناخب عادي"، واحدة من الجمل الشهيرة لرئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرشل. تبدو الجملة وكأنها تأخد موقفا سلبيا من الديمقراطية وآلياتها، إلا أنها في الحقيقة تكشف التناقض الهام الذي نحاول أن نتجنبه في نقاشاتنا العامة، أن الديمقراطية لوحدها لا تكفي من أجل الحكم وإدارة البلاد وأنها بذلك ليست الحل السحري لكل المشاكل، بل إننا في حاجة إلى عوامل وأدوات أخرى مساعدة، منها وجود نخب وطنية قادرة وراغبة في إحداث تغيير، وإذا كان مصطلح "النخبة" قد حمل دلالات سلبية في سياق الربيع العربي باعتبارهم كانوا جزءا من المشكلة، فإن ذلك لا يعني التقليل من أهمية دروهم، بل ربما يبرز أهمية هذا الدور.


أحد التفسيرات التي تقدم لنجاج عدد من تجارب التنمية الاقتصادية وإدارة التحول الديمقراطي والانتقال السياسي في بلدان العالم المختلفة هي وجود نخب جديدة أدارت هذه الملفات بطريقة جيدة. في تركيا على سبيل المثال، يتم تفسير نجاح تجربة حزب العدالة والتنمية في الحكم والإدارة من خلال استطاعته الاستفادة من نخبة الأناضول التي ظهرت نتيجة تغيّرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تعرضت لها تركيا. هذه التغيرات ساعدت على صعود الطبقات الاجتماعية المحافظة والفقيرة إلى درجات أعلى عبر الاستفادة من التعليم في المدارس الدينية (إمام/ خطيب)، ثم الالتحاق بالدراسات الجامعية التي لم تكن مسموحة لهم من قبل، وتكوين طبقة صغار رجال الأعمال الذين استفادوا من الانفتاح الاقتصادي في الثمانينيات في بناء صناعات هامة وتراكم لرأس المال، مع تراكم خبرات لدى الطبقة السياسية المحسوبة على الإسلام السياسي عبر تجارب حكم وإدارة مختلفة بعضها وصف بالنجاح والآخر بالفشل.

في نهاية الأمر، ساعدت كل هذه التطورات على تكوّن نخبة تركية جديدة مختلفة عن النخبة التقليدية التي كانت تحكم تركيا منذ أتاتورك، استطاعت الصعود من بين صفوف المواطنين للوصول إلى الحكم وتحقيق نجاحات بشكل متصاعد.

مصر في هذا السياق تقدم النموذج المخالف، فنخبتها الحاكمة كانت دائما قادمة من أعلى ولا تسمح للصاعدين من بين صفوف الناس بالوصول إلى الحكم، فتحالف العسكر مع البيروقراطية المصرية الذي تأكد بعد 1952 استمرت نخبته في الحكم والإدارة بصور مختلفة لكن تحت المضمون نفسه، خلفيات عسكرية سابقة أو حالية تشارك في السلطة بشكل غير مباشر غالبا لكنها تستفيد منها وتتحكم بها أيضا، ويتم ذلك عبر البيروقراطية المصرية التي تهتم بالأساس بالجزء التقني/ التنفيذي، ومع ذلك فإن المناصب القيادية والمؤثرة تظل محصورة في نطاق ضيق وثيق الصلة بالحزب الحاكم أو بشخص الرئيس، وحتى مع حالة الانفتاح في ظل حكم السادات، أو صعود مجموعة رجال الأعمال مع جمال مبارك في بداية الألفية، فإن الطريق طوال الوقت للوصول إلى الثروة أو السلطة كان يجب أن يمر عبر الجيش أو المؤسسة البيروقراطية، فظهر رجال أعمال كبار التحقوا بالبيروقراطية عبر مناصب الوزراء ومساعديهم، ومؤسسات اقتصادية للجيش تعمل في مجالات اقتصادية متنوعة.

كانت ثورة يناير لحظة فارقة إذاً، فقد كانت فرصة للنخب المصرية البديلة كي تعرض نفسها وتقدم البديل، لكن هذا لم يحدث، فالنخب التقليدية من مثقفين وسياسين كانوا جزءا من النظام السياسي الحاكم بصورة أو بأخرى، لديهم مشاكله وعيوبه نفسها، بل وتصوراته نفسها عن مصر وكيفية إدارتها بدون أفكار أو رؤى جديدة، أما الشباب الذين كانت لبعضهم أفكار ورؤى مختلفة فقد كان أداؤهم دون المستوى: جزء منهم دخل في صراعات فرعية بعيدة عن الصراع الرئيسي، وآخرون دخلوا في سجال أيديولوجي، وجزء آخر كانت لديه الأفكار لكنه لم يكن قادرا على التنفيذ وعلى حشد الجماهير حول فكرته، وكان الإخوان دون المستوى في الأفكار والطرح الفكري وعند التنفيذ أيضا. الحقيقية أن النخبة فوجئت بالثورة المصرية ولم تكن على مستوى الحدث الكبير.

مع هذا، تظل إمكانية وجود نخبة مصرية حقيقية وبديلة أمرا قابلا للتحقق، فالأحداث التي مرت بها مصر منذ 2011 إلى الآن خلقت درجة عالية من الوعي والمتابعة لدى قطاعات كبيرة من الشباب لا يمكن تجاهلها. التجارب العملية المتتابعة، ولّدت رصيدا من الخبرات والمعارف لدى قطاع منهم، وفكرة البحث عن حلول وأفكار بديلة للمشاكل المصرية المستعصية هي جزء من نقاش عام يحدث كثيرا بين الشباب ذوي الاتجاهات المختلفة، سواء على المستوى الأكاديمي أو السياسي. الانفتاح على التجارب الأخرى العربية والأجنبية تبدو ظاهرة ملحوظة، وربما يؤدي هذا يوما إلى ظهور نخبة مصرية حقيقية تصعد من بين صفوف الناس بديلا عن النخبة التي هبطت علينا من أعلى.

مع أهمية المشاركة الشعبية الواسعة في الحكم والإدارة والتي قد تأتي عبر صناديق الانتخابات، إلا أن وجود نخب وطنية لديها إمكانات إدارية وفكرية للتعامل مع مشاكل المجتمع المصري بصورة مختلفة، وتقديم حلول وبدائل متنوعة أقل كلفة وأعلى عائدا وتحظى بدعم شعبي واسع هو أمر أساسي لضمان نجاح واستمرار أي نظام سياسي في الحكم. لا يعني هذا التقليل من أهمية حركة الجماهير في الشارع ولا المطالب التي تعرضها أو تجاوز هذه المطالب وتلك الحركة، بقدر ما تعني أن وجود هذه النخبة هو الضامن لتحويل هذه المطالب وتلك الحركة الشعبية إلى مشاريع وبرامج عملية تحقق الأهداف المطلوبة منها.

(مصر)

المساهمون