في ما يتعدى التعريف القانوني للإرهاب.. العنف وإسرائيل والكولونيالية

في ما يتعدى التعريف القانوني للإرهاب.. العنف وإسرائيل والكولونيالية

06 نوفمبر 2017

برنادوت جثماناً في باريس بعد مقتله في القدس (1948/Getty)

+ الخط -
إن واحدة من المشكلات القانونية المعقدة التي لم تجد حلاً مقبولاً ومجمعاً عليه حتى اليوم هي مشكلة الاتفاق على تعريف قانوني لمصطلح "الإرهاب". فالفقه الجنائي الدولي لم يتمكّن من الوصول إلى تعريف محكم لهذه الظاهرة. وهي، بالفعل، ظاهرة يصعب تعريفها بدقة. ويبدو أن محاولة تعريف "الإرهاب" مسألة لا طائل منها. غير أن ثمة اتجاهاً قانونياً وسياسياً يرى أن من الضروري تعريفه، لأن الأمر يتعلق بالقانون الجنائي الذي يتطلب تحديداً صارماً للأفعال موضوع التجريم، وهو ضروري جداً من الناحية الأكاديمية، ولأغراض الدراسات المحايدة. ومهما يكن الأمر، الإرهاب، بصورته السائدة، من وسائل العنف التي تلجأ إليها المجموعات العقيدية أو الإثنية أو غيرها التي لا تمتلك وعياً مطابقاً للعصر أو كثيراً من القوة السياسية لإرغام الخصم على الإذعان لمطالبها. ومع أن الإرهاب مسلك يائس، ولا يؤدي إلى أي نتيجة سياسية غير تخريب المجتمعات، إلا أنه يختلف عن العنف السياسي اختلافاً بيناً، من حيث أغراضه وأدواته. فالعنف سمة عالمية من سمات القرن العشرين، خصوصاً الذي مارسته حركات التحرّر الوطني. لكن الولايات المتحدة الأميركية نجحت في أن تدمج العنف والإرهاب في سياق دلالي واحد، أي أن تدمج ما هو احتجاج على الظلم بما هو قتل أعمى؛ بين النضال من أجل الحرية والانتقام السياسي أو العقيدي. وبهذا محت الدعاية الأميركية الفوارق الأساسية بين العنف والإرهاب. والمفارقة أن الأميركيين الذين يزعمون أنهم يقاتلون الإرهاب اليوم مارس أسلافهم، منذ بداية تاريخ تأسيس الدولة الأميركية الحديثة، إرهاباً متمادياً؛ فهم أبادوا الهنود الحمر، وكانوا يصطادون السود في أفريقيا بالشباك أو بالرصاص، وينقلونهم، بالاشتراك مع البرتغاليين والإنكليز والإسبان والعرب، إلى العالم الجديد. والدولة الأميركية هي التي أمرت بإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، وهي التي ساندت معظم النظم العنصرية البائدة في أفريقيا وأميركا وغيرهما، من كاوكي إلى شاه إيران وفرانكو وسوموزا وبينوشيه. والولايات المتحدة التي شجعت في الستينيات خطف الطائرات الكوبية، راحت، عندما أرادت كوبا أن ترد الكيل كيلين، تتحدث عن الإرهاب الكوبي الموجه ضد الطائرات المدنية. ومع أن لا صلة مباشرة بين إرهاب الدولة الأميركية في مرحلة التأسيس، أو حتى في المراحل اللاحقة، بالإرهاب الذي يلف العالم في أيامنا الراهنة، فإن الخطاب السياسي الأميركي الحديث غير مقنع البتة، فهو لا يرى في معركته ضد الإرهاب الاسلامي، على سبيل المثال، إلا معركة بين الخير والشر، كأنما الولايات المتحدة هي الخير، وما عداها هو الشر. وهذا محض هراء، فالاثنان شر. إن ستالين كان خيراً كله إبان تحالفه في الحرب العالمية الثانية مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، لكنه صار زعيم إمبراطورية الشر بعد ذلك. وكان صدام حسين خيراً حين كان يقاتل إيران، ثم صار الشرير نفسه بعد اجتياح الكويت. وأسامة بن لادن كان خيراً حين كان يقاتل الجيش السوفييتي في أفغانستان، وصار الشيطان مجسداً في ما بعد.
والرئيس الأسبق جورج بوش الذي استعار من هنري كيسنجر قوله "إن الذين يزودون الإرهابيين بالدعم والتوجيه والتمويل مذنبون مثل الإرهابيين" عليه أن يعترف أنه إذا كانت الحال هكذا حقاً، فإن الحاجة تصبح ملحة لمعاقبة كيسنجر نفسه (وجورج بوش وخلفائه وحلفائه العرب أيضاً)، لأنه متهم بجرائم كثيرة جداً تفوق جرائم أسامة بن لادن نفسه إبان توليه إدارة وكالة المخابرات المركزية الأميركية. أليس هو من وضع "خطة كوندور" في سبعينيات القرن العشرين، وقدّم، بناء عليها، الدعم والتوجيه والتمويل لجماعات الإرهاب في إندونيسيا وكمبوديا وإيران وجنوب أفريقيا وبنغلادش ودول أميركا اللاتينية؟
الأمثلة على عدم متانة الخطاب السياسي الأميركي وتهلهل مفرداته كثيرة جداً. ومهما يكن الأمر، يقدم المثال الصهيوني لنا دليلاً إضافياً على سطوة الدعاية، حينما يتعلق الأمر بالإرهاب الذي تدعمه قوة عاتية كالولايات المتحدة الأميركية. وفي هذا السياق، نجحت الدعاية الصهيونية في تبديل المصطلحات، خصوصاً في تقارير المنظمات الدولية، فصار يقال للقتل والقمع اليومي في فلسطين "الإفراط في العنف"، وبات العيش القسري تحت الاحتلال يوصف بِـ "العيش تحت ظروف قاهرة".. وهكذا.

السجل الدامي
ينظر اليهود، في غالبيتهم، إلى الصهيونية باعتبارها حركة تحرّر قومي للشعب اليهودي. وقد تمكّنت هذه النظرة من عقول فئات واسعة من الأوروبيين، المثقلة ضمائرهم بأوزار العنف الذي بلغ منتهاه في أثناء الحرب العالمية الثانية. وكانت الصهيونية قد ظهرت في المراحل الأخيرة من عصر القوميات الأوروبي، فانتزعت لها مكانةً في سياق هذه المرحلة، وقدمت نفسها حركة سياسية لتحرير اليهود وتخليص أوروبا من أعبائهم؛ إنها قومية الشتات اليهودي التي أرادت تحويل اليهود من جماعة مؤمنين إلى أمة بالمعنى الحديث للكلمة. وكانت "المسألة اليهودية" شديدة الوطأة على أوروبا شرقاً وغرباً. ففي الشرق، كانت حمّى العداء لليهود في أوجها، والدعوة إلى ترحيلهم تلقى صدىً لدى اليهود أنفسهم من الداعين إلى الهجرة إلى فلسطين. وفي الغرب، استنفرت أوروبا مؤسساتها لصد الهجرة المتمادية ليهود الشرق، وللتخلص من الأعداد المتزايدة في ظهرانيهم، وترحيلهم إلى أي مكانٍ يلائم مصالحها. وشُغل الفكر الأوروبي بتلك المسألة ردحاً من الزمن، وكان أعظم من وجّه سهام نقده إلى اليهودية اثنان، يعودان في جذورهما إلى اليهود، هما سبينوزا وكارل ماركس: الأول سبق ظهور الصهيونية الحديثة بسنوات طويلة، والثاني عاصر بدايات الفكر الصهيوني وطرائق الخلاص المشيحانية. وفي هذا المسار المتسارع، فهمت الصهيونية موازين القوى جيداً، فوضعت نفسها في خدمة المصالح الأوروبية الجديدة التي كانت توشك على الانتصار، والتصقت بالمصالح التي عبّرت عنها الإمبريالية البريطانية، ثم الأميركية، خير تعبير. وبانتصار الإمبريالية البريطانية في الحرب العالمية الأولى، انتزعت الصهيونية وعداً بإقامة وطن قومي لليهود (إعلان بلفور 1917)؛ وبانتصارها الحاسم في الحرب العالمية الثانية انتصرت الصهيونية بدورها، فأنشأت لها دولة في فلسطين.
استطاعت الصهيونية، في عملية ترويج سياسية لا مثيل لها في تاريخ الغرب المعاصر، أن تقدم نفسها حارسة للمصالح الأوروبية، ثم الأميركية، في المنطقة. وفي عملية أخرى من الجهد الفكري المنظم، استطاعت الصهيونية أن تتسّرب إلى الضمير الديني للشعوب الأوروبية وللشعب الأميركي، وأن تتسربل بالغطاء الإيماني الذي وفره لها تلازم العهدين العتيق والجديد، وتجاورهما معاً في قرطاسٍ واحد، هو الكتاب المقدس.
بدأ إرهاب الصهيونية في روسيا وشرق أوروبا كردة فعل على الإرهاب الذي مورس على اليهود، وانتهت الصهيونية في فلسطين إلى ممارسة الإرهاب، في سبيل ترحيل السكان الأصليين. ففي الأول من مارس/ آذار 1881، شاركت إحدى اليهوديات، ورفيقها اليهودي البولندي، في اغتيال القيصر ألكسندر الثاني، الذي اشتهر بتحريره العبيد، وتحريمه العبودية والرّق، وإدخاله الإصلاحات الواسعة على النظام القيصري، وتحديث القوانين ومناهج التعليم، وإنشاء الطرق والسكك الحديدية في طول روسيا وعرضها. وفي إثر هذه الحادثة، وعقب عمليات القمع المتواصلة التي طاولت اليهود، علاوة على الشيوعيين والفوضويين، وتعقبت أفرادهم ونخبهم، بدأت الصهيونية الحديثة رحلتها العملية نحو تجميع اليهود في وطن قومي لهم، فانبثقت في أرض روسيا وتحت سمائها جمعيات، مثل "البيلو" و"بني موشي" و "أحباء صهيون" الذين ركزوا جهودهم على ما سُمّي "الصعود إلى أورشليم" وافتداء الأرض واستعمارها، وجرى ذلك كله إبان سطوة الدولة العثمانية في فلسطين، وإبان حكم السلطان عبد الحميد الثاني. ولم تكد تنقضي خمس عشرة سنة، حتى تمكّن اليهود من عقد مؤتمر بازل في سويسرا سنة 1897 الذي أطلق المنظمة الصهيونية العالمية. ولم تكد تمضي عشرون سنة أخرى، حتى كان للصهيونية وعد من بريطانيا بإعطائها وطناً قومياً (إعلان بلفور في 2/ 11 /1917)، ثم ثلاثون سنة أخرى وانتزع الصهيونيون قرار التقسيم من الأمم المتحدة (29 /11 /1947). وفي معمعان هذا المسار، سالت دماء الفلسطينيين والعرب. وارتُكبت المجازر في مدنهم وقراهم، واغتيل من اغتيل من نخبهم وقادتهم وأفرادهم.


العنف والإرهاب
إذا كان الترانسفير، أو حتى الإبادة البشرية، أحد مبتكرات الاستعمار، كما حصل للهنود الحمر في أميركا، فالصهيونية نفسها تفوّقت على الاستعمار القديم في بعض الأحيان. وقد وجدت الصهيونية الحديثة في كثير من أسفار الدين اليهودي معيناً لا ينضب من الرموز والأوامر والتكاليف والوقائع والأساطير والخرافات والغيبيات التي كانت تُستخدم، بكفاءة عالية، لحشد التأييد لسياستها. فالدين اليهودي، مثل دياناتٍ كثيرة، خال من التسامح، وهو لا يعترف بالآخرين وبمعتقداتهم، مسلمين كانوا أو مسيحيين أو بوذيين أو هندوساً أو خلافهم. وإحدى الصلوات اليهودية التي يكرّرها اليهودي تقول: "لتحل البركة على إله القوة الذي يدرب يديَّ على الحرب وأصابعي على القتال"، مع أن التوراة، وحتى التلمود، فيها بعض الشذرات عن احترام الآخر وموادعة الأمم. ففي سفر اللاويين (الإصحاح 19، الآيتين 33 و34) يرد ما يلي: "إذا نزل عندكَ غريب في أرضكم فلا تظلموه. كالوطني منكم يكون لكم الغريب النازل عندكم، وتحبه كنفسك، لأنكم كنتم غرباء في أرض مصر". والأيمان التلمودية الثلاث (الهالاخاه) تنص على عدم العودة إلى "أرض إسرائيل" بكثافة، وبشكل منظم وجماعات، وعلى عدم التمرّد على الأمم، وعلى رفض الإيمان بدولة خاصة باليهود. وفي هذا السياق، رفضت اليهودية الإصلاحية، بلسان أحد أبرز ممثليها، موشي مندلسون، القومية اليهودية والوطن القومي اليهودي، ودعت اليهود إلى الاندماج بالمجتمعات المحلية التي يعيشون فيها. وكذلك وقفت حركة "حبد" (أي حوخماه أي الحكمة، وبيناه أي الرشد، وداعات أي المعرفة) فكرة الخلاص البشري، لأن الخلاص لديها سيأتي من المشيئة الإلهية، وليس من البشر.
لم يكن تيودور هيرتزل مؤسس الصهيونية مؤمناً بل كان ملحداً. لكنه استخدم اليهودية للتعبئة السياسية والفكرية، وأقام معماره النظري على فكرة تفوق العنصر اليهودي وأفضليته على سائر العالمين. والمعروف أن هيرتزل لم يختن ابنه الوحيد الذي تحول إلى المسيحية ثم انتحر لاحقاً، ولم يكن هيرتزل يعرف العبرية أو حتى اليديشية، وكان يخالف دائماً الشعائر اليهودية، ويردّد دوماً أن الدين لا يهمه، لكن ما يهمه هو الأسطورة الجبارة للعودة التي يتضمنها الدين.
ثمّة، بلا شك، فارق كبير، سياسي وقانوني وإيديولوجي، بين العنف والإرهاب. فالعنف، ولا سيما الثوري، يمارسه الأفراد وتلجأ إليه الشعوب، لأنه يتعلق بقضايا نبيلة كالتحرّر الوطني مثلاً أو الثورة الاجتماعية. وفي تاريخ الثورات الاجتماعية في القرن المنصرم، اشتهر اثنان من منظّري العنف الثوري، كان لهما أثر كبير في الفكر الأوروبي، وفي الفكر الاشتراكي بالتحديد، هما: الفرنسي لويس بلانكي (1805- 1881) الذي أصدر صحيفة "لا إله ولا سيد"، والروسي ميخائيل باكونين (1876-1814) الذي بشّر بالفوضوية كشكل مستقبلي، لتسيير المجتمع الاشتراكي المرتقب. أما الإرهاب؛ فهو من وسائل القمع والعسف التي تلجأ الدولة إليها أحياناً، وهو أيضاً طريقة من الطرائق التي يبادر الأفراد والجماعات إليها، عندما تعوزهم القدرة على احتمال الاضطهاد، أو إدارة خلافاتهم السياسية. فالهجوم على أشخاص يتمتعون بالحماية الدولية هو من أعمال الإرهاب بامتياز، مثل اغتيال الصهيونيين، اللورد موين في القاهرة في 6 /11 /1944، واغتيالهم الكونت فولك برنادوت في فلسطين في 6/9/1948. وكذلك، فإن اغتيال رئيس الحكومة الإيطالية ألدو مورو سنة 1978 ومحاولة اغتيال البابا يوحنا بولس الثاني سنة 1981 يندرجان في خانة الإرهاب بلا جدال. أما أعمال المقاومة في فلسطين، ومثلها أعمال المقاومة الوطنية في جنوب لبنان، فهي مشروعة، يقوم بها وطنيون ضد احتلال غير مشروع؛ هذا ما تقرّه القوانين والشرائع الدولية وقرارات الأمم المتحدة، فضلاً عن أعراف الشعوب وأفكار المستنيرين والأحرار.
غير أن ذاكرة الإعلام الغربي، في هذا المجال، تبدو دائماً شديدة الانتقائية؛ فأعمال العرب وحدهم يجري ترويجها عملياتٍ إرهابية. أما الأعمال التي يقوم بها الإسرائيليون فيجري النظر إليها على أنها عمليات "دفاع مشروع" عن النفس، أو عمليات ثأرية أو عمليات استباقية. فعملية اختطاف السفينة أكيلي لاورو في أكتوبر/ تشرين الأول 1985، على غبائها، لم تكن إلا ردة فعل على قصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس في 1 /10 /1985. وقد نشبت في إثرها حملة إعلامية ضارية في العالم كله ضد الفلسطينيين، وتناست ذاكرة الإعلام الغربي عشرات عمليات خطف السفن التي نفذتها القوات الإسرائيلية أمام الشاطئ اللبناني إبّان الحرب الأهلية اللبنانية، فكانت تحتجز السفن مع طواقمها، ثم تسلمهم إلى "القوات اللبنانية" التي كانت تقتل الطواقم وتستولي على السفن، على غرار ما جرى للمناضل والمفكر الفلسطيني، حنا ميخائيل (أبو عمر) ورفاقه، حين كانوا يبحرون نحو طرابلس، فاختطفتهم البحرية الإسرائيلية وسلمتهم إلى ميليشيا حزب الكتائب التي أعدمتهم على الفور، ودفنتهم في منطقة بكفيا في جبل لبنان (أنظر: فايز قزي، من ميشال عفلق إلى ميشال عون، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2010، ص 84). والأمر نفسه ينطبق على تدمير المفاعل النووي العراقي (أوزيراك أو تموز) في 7 /6 /1981، وهو مفاعل مرصود للأغراض السلمية، باعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا تؤهله قدرته لإنتاج الأسلحة النووية. لكن منع العرب من التقدم العلمي هدف يوازي، لدى الإعلام الغربي، تأبيد قدرة إسرائيل على التفوق والبقاء.

رواد وأوائل
كان الصهيونيون في فلسطين رواداً وأوائل في عمليات الإرهاب والنسف والتفخيخ التي شاعت، في ما بعد، في منطقتنا العربية، فهم أول مَن خطف الطائرات؛ ففي ديسمبر/ كانون الأول 1954 اعترض سرب من الطائرات الإسرائيلية طائرة مدنية سورية، وأجبرها على الهبوط في مطار اللد، في محاولة للضغط على الحكومة السورية، لتسليمها جنوداً محتجزين لديها. وأسقط سلاح الجو الإسرائيلي طائرة مدنية ليبية فوق سيناء في 21 /2 /1973 راح ضحيتها 104 أشخاص، بينهم وزير خارجية ليبيا، صالح مسعود أبو يصير صاحب كتاب "كفاح الشعب الفلسطيني". واختطفت اسرائيل في 10 /8/ 1973 طائرة مدنية لبنانية، لاعتقادها أن جورج حبش على متنها. وتكرّر الفشل في 1987 باختطاف طائرة ليبية لاعتقاد المخابرات الإسرائيلية الخارجية (الموساد) أن جورج حبش وأحمد جبريل على متنها أيضاً. وكان الإسرائيليون أول مَن استعمل الرسائل الملغومة في قتل الأخصام؛ ففي 3 /9/ 1947 وجهوا رسائل ملغومة إلى بعض البريطانيين في لندن انفجرت بهم وأدت أغراضها تماماً. وبين نوفمبر/ تشرين الثاني 1962 ومارس/ آذار 1963 وجهوا رسائل ملغومة إلى العلماء الألمان في مصر، انفجرت اثنتان منها، فقتلت ستة علماء مصريين، ولم يُصب الألمان بأذى. وتكرّر هذا الأسلوب كثيراً، في ما بعد، فانفجرت رسالة ملغومة بين يدي رئيس مركز الأبحاث الفلسطينية، الدكتور أنيس صايغ، في 19/7/1972 بترت له إصبعين، وذهبت ببعض سمعه وأفقدته بعض بصره، ثم انفجرت رسالة أخرى بين يدي القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بسام أبو شريف، في 25 /9 /1972 أصابته بجروح في وجهه ويديه.
والصهيونيون أول مَن لجأ إلى قتل الرهائن البريطانيين في ناتانيا، لمجرد الإيحاء لسلطات الانتداب بتصلبهم وصعوبة مراسهم. وهم أول مَن استعمل طريقة تفخيخ السيارات وتفجيرها في الأماكن العامة، عندما فجّروا سيارة مفخخة في بلدة صرفند في فلسطين في 5/2/1946، وعندما نسفوا أحد القطارات الذي كان يقل جنوداً بريطانيين بالقرب من رحوبوت في فلسطين في 28/2/1948. وليس بعيداً عن هذا الأسلوب ما فعلوه بالكاتب والروائي غسان كنفاني، عندما فجروا سيارته في 8/7/1972 في الحازمية في لبنان، وبالكاتب ماجد أبو شرار في 9 /10 /1981 في روما. وهم أول من نسف السفارات بالحقائب المفخّخة مثلما فعلوا بالسفارة البريطانية في روما في 31 /10/ 1946.

الإرهاب ضد اليهود
ثمّة اعتقاد شائع أن اليهود لم يمارسوا الإرهاب ضد اليهود. ومن شأن هذا الاعتقاد السائد
والخاطئ أن يعزّز النظرة التقليدية إلى اليهود باعتبارهم شعبا متحدا ومرصوصا، غير أن وقائع التاريخ القريب تشير إلى عكس هذه الحال. ففي 30 /6 /1924 اغتال بعض اليهود الدكتور يسرائيل يعقوب دي هان بتهمة الخيانة، وهو شاعر وصحافي وأحد زعماء حزب "أغودات يسرائيل"، وكان يعمل على تأليف جبهة يهودية – عربية للوقوف في وجه المشروع الصهيوني في فلسطين. وفي يوليو/ تموز 1933 اغتال بعض اليهود حاييم أرلوزوروف مدير القسم السياسي في الوكالة اليهودية. وفي 25 /11 /1940 نسفوا الباخرة باتيريا لمنعها من مغادرة ميناء حيفا إلى موريشوس، وعليها مهاجرون يهود غير شرعيين، منعتهم سلطات الانتداب من الدخول إلى فلسطين بغير إذن. وقد قتل في العملية 240 يهودياً، وكان القصد إحراج بريطانيا. وفي 24 /2 /1942 نسفوا الباخرة ستروما في ميناء إسطنبول، وعليها 700 يهودي منعتهم بريطانيا من الدخول إلى فلسطين. وفي 20 /6 /1948 أمر رئيس حكومة إسرائيل، دافيد بن غوريون، بنسف الباخرة ألتالينا وإغراقها في البحر، لأنها كانت تحمل أسلحة لجماعة مناحيم بيغن، وغرق فيها 15 يهوديًا. وفي 8 /4 /1950، ألقى الصهيونيون قنبلة على مقهى البازركان في شارع أبو نواس في بغداد يرتاده اليهود، فقتل أربعة منهم، وكان الغرض حمل يهود العراق على مغادرة موطنهم إلى فلسطين. وفي 14 /1 /1951 انفجرت قنبلة في كنيس مسعودة شمطوف في بغداد، فقتلت طفلة وأصيب خمسة عشر شخصاً. وجرى تفجير مبنى لاوي للسيارات في بغداد في 19 /3 /1951 ومبنى ستانلي شعشوع في 9 /6 /1951، وكانت أصابع الصهيونية وراء هذه العملية. وفي 4 /11 /1995 اغتال يغئيل عمير، وهو يهودي يمني متشدّد، رئيس الحكومة الاسرائيلية، يتسحاق رابين.

العنف ابن الكولونيالية
مهما يكن الأمر، لا يمكن اعتبار الإرهاب الصهيوني، كما تجسد طوال نحو مائة سنة من المواجهات المباشرة مع الشعب الفلسطيني، ومع الشعوب العربية أيضاً، مجرّد ميل أصيل لدى اليهود؛ فالعنف موجود لدى شعوب العالم كله، ولو بدرجات متفاوتة. وهو ليس من عناصر تكوين الشخصية اليهودية، كما يحاول بعضهم أن يصور الأمر على مثل هذا النحو من الثبات الأزلي، وهو تصوير مخالف للعلم. وهو لا يجد جذوره في الدين اليهودي نفسه، مع أن اليهودية تحتوي مقداراً كبيراً من العنف، لأن النصوص التي تحض على العنف موجودة لدى جميع الديانات بلا استثناء تقريبًا، إنما العنف هو وسيلة سياسية كانت غايتها، منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين، ترحيل السكان الأصليين وإحلال المستوطنين مكانهم. وهذا نمط كولونيالي خاص، عرفته البشرية في أميركا وفي بعض مناطق أفريقيا مع فروق متفاوتة هنا وهناك. وقد فشل هذا الطراز من الاستعمار الإحلالي، في جانب منه في فلسطين، حينما بقي جزء من الشعب الفلسطيني فوق أرضه، الأمر الذي أتاح، في ما بعد، مواصلة نضاله ضد المشروع الصهيوني مباشرة ووجهاً لوجه. أما الجزء الذي نجحت إسرائيل في تهجيره إلى التخوم العربية، فإن "مكر التاريخ" قدم لهؤلاء اللاجئين فرصة الشروع في النضال المسلح من الأراضي العربية نفسها منذ 1 /1 /1965 فصاعداً... والصراع ما برح محتدماً.