في مئوية نادي بالِستينو

في مئوية نادي بالِستينو

27 اغسطس 2020
+ الخط -

ليست فلسطين مجرد بلد احتُلّت أرضه وهُجّر شعبه، وأصبح عنوانا للظلم والاضطهاد والالتفاف على الشرعية الدولية، إنها أيضا الوطن الذي احتضنه الوجدان الفلسطيني ذاكرةً متوهجةً، ما فتئت تُقوّض مساعي الاحتلال لمصادرتها في الزمان والمكان. من هنا، لم يكن مستغربـا أن يحتفل نادي بالِستينـو Palestino التشيلي لكرة القدم، قبل أيام، بمرور مائة عام على تأسيسه، في توقيتٍ دال يتصادف مع انتقال أنظمةٍ عربيةٍ إلى طورٍ غير مسبوق في التطبيع مع الكيان الصهيوني.

يأتي الاحتفال بمئوية النادي تحت شعار''أكثر من كونه فريقا، هو شعب بأكمله''، في إشارة لا تخلو من معانٍ تاريخية ورمزية وثقافية، فقد تأسس هذا النادي في 20 أغسطس/ آب 1920 على يد مجموعة من المهاجرين الفلسطينيين في مدينة أوسورنـو. ومنذ تأسيسه، بقي وفيا لجذوره الفلسطينية والعربية، إلى درجة أنه ظل، سنوات، لا يقبل في صفوفه إلا اللاعبين ذوي الأصول الفلسطينية أو العربية. وتأكيدا على ارتباطه بهذه الجذور، لم يغير قميصه الذي يحمل ألوان العلم الفلسطيني. وبمرور الوقت، لم يعد "بالِستينو" مجرد نادي كرة قدم، بل بات جزءا من الموروث الثقافي الفلسطيني والعربي في تشيلي وأميركا اللاتينية. 

وقبل سنوات، أخرج النادي الجاليةَ اليهوديةَ والسفارةَ الإسرائيلية في سانتياغو عن صوابهما بعد طرحه تصميما جديدا لقميصه، يأخذ عليه الرقم 1 شكل خريطة فلسطين التاريخية. واعتبرتـا ذلك إقصاءً للوجود اليهودي في فلسطين، ومعاداةً للسامية، وإسهاما في نشر مشاعر الكراهية تجاه إسرائيل. وعلى الرغم من نجاح الدعاية الإسرائيلية في دفع الاتحاد التشيلي لكرة القدم إلى فرض غرامة مالية على النادي، وإجباره على سحب القميص الجديد، إلا أن الواقعة كشفت، حسب كثيرين، الصعوبات التي تجابهُها إسرائيل في تسويق سرديتها، خصوصا حين يتعلق الأمر بالرمزية الفلسطينية التي تشكل الخريطة المعلومةُ عنوانها الأكثر دلالـةً. 

تُمثل الجالية الفلسطينية في تشيلي ثاني أكبر تجمّع للفلسطينيين في الخارج بعد البلدان العربية. وعلى الرغم من أنها صارت جزءا من النسيج المجتمعي والوطني التشيلي، إلا أن ذلك لم يمنع من أن فئاتٍ واسعة منها لا تتردّد في التعبير عن حنينها إلى فلسطين، وتضامنها ضد ما تعرّضت له على يد الصهاينة. وقد لا يكون من المبالغة القول إن تشيلي من البلدان القليلة في العالم التي لا تجد فيها إسرائيل هامشا واسعا للتمدّد بسبب التأثير الفلسطيني في النسيج المجتمعي. وقد لعب نادي بالستينـو دورا لا يُستهان به في بناء هذا التأثير وتشعيبه على مدار قرن، سيما في ما يتعلق بالتعريف بالقضية الفلسطينية ومستجدّاتها. وشكلت زيارة النادي بعض مدن الضفة الغربية (2016) فرصة لتجديد التواصل مع موطن الأجداد، وتأكيد دعمه هذه القضية. واعتبره الرئيس محمود عباس، في غضون استقباله له، امتدادا للمنتخب الفلسطيني. ولم يفوّت النادي فرصة زيارة عباس إلى تشيلي قبل سنتين (2018) ليستقبله ويحتفي به، ويهدي له قميصه الذي يحمل خريطة فلسطين. 

وعودةً إلى واقعة القميص؛ فقد تزامن تأسيسُ النادي مع الأطوار الأولى من المؤامرة الاستعمارية والصهيونية على فلسطين، أي بعد صدور وعد بلفور بثلاث سنوات. وتوظيفه خريطة فلسطين في تصميم القميص يدلّ على إخفاق السردية الإسرائيلية في محو الهوية الوطنية الفلسطينية، وعجزِها عن ترميمِ ثقوبها حين تقدّم إسرائيل باعتبارها حائزة شرعية تاريخية وجغرافية في أرضٍ تدّعي أنها كانت بلا شعب، ما يفنّده تاريخ النادي الذي يشتبك بالتاريخ الاجتماعي للمهاجرين الفلسطينيين الأوائل الذين وصلوا إلى تشيلي مطلع القرن الماضي. من هنا، تمثل هذه الواقعة بالنسبة لإسرائيل إكراها رمزيا وثقافيا وسياسيا على الأقل في تشيلي، فالنادي أُسس قبل قيامها بنحو ثلاثين عاما، ما ينسف دعايتها من الأساس بشأن إنكارها وجود الشعب الفلسطيني.

على الرغم من البعد الجغرافي لا يزال "بالِستينـو" يُمثل، بالنسبة للجالية الفلسطينية شرفة على ذاكرتها الثقافية والحضارية، فهو النادي الوحيد في العالم الذي يوجد في بلد، في حين يستلهم شعاره ومخياله من بلد آخر على بعد آلاف الكيلومترات، ما يجعله يمثل حالة فريدة لا تستطيبها الدوائر الصهيونية، ومن يدور في فلكها.