في قضية الأقصى والشيخ عكرمة صبري

في قضية الأقصى والشيخ عكرمة صبري

26 يناير 2020

الشيخ عكرمة صبري يدخل المسجد الأقصى تحدّيا للاحتلال (24/1/2020/الأناضول)

+ الخط -
بعد أن كسر خطيب المسجد الأقصى، الشيخ عكرمة صبري، القرار الإسرائيلي، ودخل المسجد الأقصى، قبل نهاية فترة إبعاده عنه بيوم، عادت سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وقرّرت إبعاده عنه أربعة أشهر أخرى. بل زادت على ذلك باستدعائه لحضور التحقيق لدى شرطة الاحتلال في القدس. ولا تقتصر آثار هذه الحادثة على البُعد الفردي، إذ من الواضح أنها تحمل دلالاتٍ رمزية ومعنوية خطيرة؛ لما يمثّله الشيخ صبري من مكانة علمية ومرجعية، ومن أبعاد سياسية سيادية. ولو أن إبعاده يندرج ضمن حملة أوسع طاولت، خلال الأسبوعين الأخيرين، أكثر من 50 فلسطينيا. والتهمة الموجَّهة هي التحريض ضد الاحتلال، في خطبه التي يلقيها على منبر المسجد الأقصى، وهو خطيبه منذ سنين، وهي التهمة التي ينفيها، لكنها الذريعة التي توسَّع الاحتلال في توظيفها، كما توسَّع في مفهومها. 
تستعيد هذه الملابسات حادثة البوّابات الإلكترونية، حين نجح الفلسطينيون، وأهل القدس، في إفشال مخطَّط الاحتلال، وأجبروه على إزالة تلك البوابات التي كانت تهدف إلى تكريس سيادة الاحتلال على المسجد الأقصى، بإظهار تحكُّمها الدقيق والصارم فيمن يُسمَح له بالدخول والصلاة في المسجد الأقصى، ومن يُرفض.
ولكن دولة الاحتلال، وهي تسعّر حربها على القدس والمسجد الأقصى، تدرك جيدا التأثيرات 
المعنوية (وهي مطمئنة إلى التفوُّق المادي) على معركة الصمود وإثبات الوجود في هذه البقعة البالغة الدلالة على الصراع، فقبل أيام قليلة، شهدت القدس حادثةً رمزيةً أخرى، دولية، تمثلت بطرد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أفرادا من شرطة الاحتلال الإسرائيلي وعناصر المخابرات، ورفضه أن يرافقوه إلى داخل كنيسة القديسة آن في القدس المحتلة، خلال زيارة للبلدة القديمة شملت المسجد الأقصى المبارك. في لفتةٍ كانت واضحة الدلالة والهدف، إذ كانت ردًّا على تجاوز الاحتلال الأوضاع القانونية للأماكن المقدسة، وإلغاء أيّ حضور، ولو دوليًّا فيها، ولذلك أعقب ماكرون ذلك بزيارة إلى المسجد الأقصى، بصحبة رجال الوقف الإسلامي.
وعودا إلى الذريعة التي أُبعِد بموجبها الشيخ عكرمة صبري عن الأقصى، ويُحقق معه بسببها، وهي التحريض، فإنه لا تعوزنا الإشارات على أبعادها السياسية الاحتلالية، ولذلك سوابق تشير إلى توسيع مفهوم التحريض لدى الاحتلال؛ ليشمل تناول مفاهيم دينية، في إطار تفسير آياتٍ قرآنية، تتعلق بالمسجد الأقصى، أو أحاديث نبوية، كما في آيات سورة الإسراء، إذ سبق أن اعتقل شيخٌ كان يشرح تلك الآيات، في المسجد الأقصى، واعتبره الاحتلال، بذلك، متورِّطا في التحريض عليه.
وكنَّا لاحظنا حساسية مبالغًا فيها من سلطات الاحتلال، في الجانب المتعلق بالحضور الفلسطيني في القدس، كما يُفهَم من حادثة استدعاء رجالٍ إصلاح مقدسيين تصدَّوا لخلاف اجتماعي عائلي في القدس، على خلفية مقتل فتاة، وكان التشديد عليهم بضرورة التخلِّي عن دورهم الإصلاحي، بحجَّة أن القانون الإسرائيلي هو المرجع الوحيد لكل النزاعات الحاصلة في القدس.
ولا حاجة إلى الإشارة إلى مقدار التعسُّف والتلاعب، حين تلجأ سلطات الاحتلال إلى حرمان مسلمين من حقِّهم في الصلاة والعبادة في المسجد الأقصى، وإدراج ذلك الإبعاد عن الأقصى عقوبة متكررة. علمًا أن هذا الحق في الوصول إلى أماكن العبادة مكفول دوليا، ولكن إسرائيل تبدو متضايقةً من مجرّد حضور المصلِّين الفلسطينيين في المسجد الأقصى، كما فعلت، فجر يوم الجمعة الماضي، حين اقتحمت قواتها الأقصى وساحاته، وأطلقت قنابل الصوت والغاز، في محاولةٍ منها منع آلاف المصلين من الوصول إليه لأداء صلاة فجر الجمعة، في إطار حملة "الفجر العظيم" لحماية الأقصى ومصلَّى "باب الرحمة" من فرض السيطرة الإسرائيلية عليه؛ تمهيدا لبناء كنيس في مكانه.
وتكثّف دولة الاحتلال، في المقابل، اقتحاماتها الحرم القدسي، بشرطتها ومستوطنيها، والجماعات الدينية اليهودية المتطرِّفة والعنصرية. وفي إطار إحكام سيطرتها على المسجد الأقصى والمقدَّسات في القدس، لا ترى إسرائيل غضاضةً في التحلُّل من الاتفاقات التي أبرمتها مع الأردن، مثلا، وهي تعلم أهمية هذا البلد، وتأثيرات استقراره على مجمل الصراع ومستقبله، ولكن العقلية المتحكّمة حاليا هي عقلية تقدِّم أولويات السيطرة على الضفة الغربية والقدس، في استغلال الفرصة السانحة، تحت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي سبق كلَّ أسلافه، في استرضاء إسرائيل، والتماهي مع رؤيتها الاحتلالية، سيما اليمينية الليكودية التي ترى أنّ تركيز الوجود الصهيوني في الضفة الغربية والقدس، وتوسيعه، بالضمّ والتهويد، يتقدّم على الاعتبارات العربية والإقليمية، حتى بات بالإمكان تحقيق ذلك، من دون تقديم تنازلات، كما طالبت المبادرة العربية للسلام، مثلا، مستفيدة من دلائل تشير إلى تماشي دول عربية، فعليا، مع هذه الرؤية.
يعزّز هذا التعاطي الاحتلالي مع القدس تسريباتٍ صحافية إسرائيلية عن أن القدس، بحسب 
"صفقة القرن" التي سيعلن البيت الأبيض عن فحواها قريبا، ستبقى بشطريها، الغربي والشرقي، تحت سيادة إسرائيلية، مع وجود ممثلية فلسطينية رمزية في البلدة القديمة، فلا بدَّ أنّ ضوءًا أخضر أميركيا شجّع نتنياهو، ومَن هم على يمينيه، على تسريع هذه السياسة تجاه القدس والمسجد الأقصى.
وهكذا، وجريًا على طريقة إسرائيل الراهنة في فرضها الوقائع، بشكل أُحادي، مستندةً إلى امتلاكها أدوات ذلك ماديا، وإلى الدعم الأميركي المطلق، سيما من البيت الأبيض، تتعدّى بهذه السياسة إلى القدس والمسجد الأقصى، مع أنها تجد رفضا دوليا، (ولو غير متكافئ)، كما حرص على إبدائها الرئيس الفرنسي ماكرون، حين لم يكتفِ بطرد أفراد الشرطة الاحتلالية، ولكن أعقب ذلك بجولةٍ في باحة المسجد الأقصى، بصحبة المدير العام للأوقاف الإسلامية، عزام الخطيب. لتأكيد رفضه السيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية، والمقدسات، مقابل تذكيره بالوصاية الأردنية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية في القدس.
وبعد، لا تعمد دولة الاحتلال فقط إلى الاستفراد بالمسجد الأقصى والمقدسات، بتحجيم الوجود الفلسطيني فيه، بل تعمد أيضا إلى ترويض المنطقة العربية والمحيط الإسلامي، على التسليم بسيادتها المطلقة على تلك الأماكن البالغة القداسة والحساسية.