في ظلال ترامب

في ظلال ترامب

19 سبتمبر 2019
+ الخط -
العالم كله تعرّف إلى شخصية دونالد ترامب. عشرات الكُتب صدرت من مقرّبين منه، من صحافيين احتكّوا به، خلف الكواليس أو أمامها؛ ومع الكتب، مئات المقالات والتصريحات لا تبتعد عن وصف الكتب إلا بقلّة تفاصيلها. عشرات آلاف من علماء النفس والمعالجين النفسيين وقعوا العرائض، منذ أيامه الأولى في البيت الأبيض، ينْذرون فيها من "خطورته على الأمة وعلى العالم"، متوقِّعين بأنه سوف يُقال من منصبه خلال سنتين؛ وخابوا... 
ما زال دونالد ترامب في الحكم، وقد مرّت ثلاث سنوات على انتخابه. ولم تنلْ منه خدْشة واحدة تصيب ثقته العارمة بنفسه، أو تحرمه من الحماسة اللازمة للعودة إلى الرئاسة في الانتخابات المقبلة. بل أكثر من ذلك: ترامب الكذّاب، الجاهل، الغشاش، المزوِّر، المتبجّح، المضطرب، المتفكِّك، المتغطرس، العنصري، الذكوري، النرجسي الطفولي، الاعتباطي، الفوضوي، المدلَّل، المحابي عائلته، العاجز عن التركيز على أكثر من صفحة مكتوبة، صاحب التويتات (تويتر) الغنية بالأخطاء اللغوية، ومدْقعة الفقر بمفرداتها، المهووس بمناقضة سلفه باراك أوباما، بمشروع الصحة للجميع، أو بالاتفاق النووي مع إيران، أو اتفاق باريس لمعالجة أزمة المناخ... المهووس بنفسه، المعتدّ بشعره و"ذكائه" و"جماله" وشهرته. وهذه الأخيرة، أي الشهرة، هي كنزه الثمين، فلسفته في النجاح، ودليله إلى القمة.
ترامب هذا، بتلك الشخصية العجيبة، يبسط ظلاله على العالم أجمع، فهو ليس هامشياً، ليس 
زعيماً إقليمياً، أو عشائرياً، أو طائفياً، أو قائد واحد من الفيالق المنتظِمة تحت رايات غيرها... إنه رئيس أكثر دولة مصدِّرة للقوة الناعمة: الصورة، الألفة، المثال، الريادية، الديمقراطية الأولى، الأكمل.. إلخ. واذا ما عطفتَ الناعمة على القوة الأخرى، الخشِنة، الصواريخ والبوارج والنووي... فلن تتردَّد بملاحظة أن العالم كله تأثر به، بل هو أصبح صاحب "كاريزما" خاصة لكل من أحبّ أن يسيطر على غيره، سواء في الحكم أو في المعاملات الإدارية أو حتى الطبية؛ أي من أسفل العلاقات السلطوية إلى أدناها رتبةً أو مرتبة؛ جلّهم باتَ يتماهى مع دونالد ترامب. شخصية ترامب أعطت الشرعية الضرورية لكل من أراد أن يُعلي من شأنه بين الناس. ولنا في حياتنا اليومية، هنا، في لبنان، أمثلة لا تُحصى عن انعكاس تلك الظلال الموفّقة علينا، يمكنها أن تملأ صفحاتٍ وصفحاتٍ عن مآثرها... هذا عن القريب منا. أما البعيد، فإليك نماذج من التماهي العالمي مع دونالد ترامب.
بوريس جونسون، رئيس وزراء أقدم ديمقراطية في العالم، الذي يناديه أكثر من نصف البريطانيين "ترامب البريطاني"، يشبه ترامب فعلاً، أو يتشبّه به قصداً، أو الاثنين معاً: كذبه البواح على البريطانيين، في حملاته من أجل بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، دأبه المضْحك في صناعة شهرته التي يعتبرها "مدخلاً" إلى البيوت الهانئة، تهريجه المكرور الذي يوسِّع ذاك "المدخل"؛ غُنْجه واستهتاره، وقراره تعطيل البرلمان، تمريراً لمشروعه البريكستي، تصريحاته المهينة بحق أصحاب اللون الأسود، وبحق النساء المحجّبات... وأخيراً، شعره، المتطاير عن قصد، الأشقر الاوكسيجيني، الكيميائي، شبيه شعر دونالد ترامب..
أو: جايير بولسونارو، رئيس جمهورية البرازيل. مثل دونالد رامب، لا يريد الاعتراف بأن ثمّة أزمة مناخية حادّة في الكوكب الأرضي، ولا بأن المناخ ومصالح المستثمرين البرازيليين والعالميين يشاركان المناخ مسؤولية الحرائق الهائلة التي اجتاحت غابة الأمازون أخيرا؛ حرائق تهدّد هواء الكوكب كله، تأكل من هوائه. فيما غابة الأمازون هي "رئة العالم".. يتركها تحترق، بلا مبالاة ترامبية. وعندما يبادر الرئيس الفرنسي، ماكرون، إلى نقد موقفه، ويقترح عليه المساعدة لإطفاء هذه الحرائق، بماذا يردّ عليه بولسونارو؟ بصورة على "تويتر"، فيها زوجة ماكرون "البشعة، العجوز"، إلى جانب زوجته هو، الصبية الرشيقة الجميلة، مفتتحاً بذلك حملة دهماء النخبة، من بينها وزراء ونواب، وحتى ابنه.. وبولسونارو، بهذه المقارنة بين المرأتين، زوجة الرئيس الفرنسي وزوجته، يعرض لنا زوجته كما لو كانت جائزة، أو نيشانا، يشهدان على "نجاحه". والمعنى أن الرئيس الفرنسي لا يستحق موقعه، لأن جائزته "بائرة"، "منْتهية الصلاحية". الزوجة - المكافأة، الشاهدة على النجاح، هو بالضبط الدور الذي تقوم به ميلانيا، زوجة دونالد ترامب. هو يعتز بصباها المنحوت بالبوتوكس واللايزر.. وتشي كلمات ترامب المسرّبة، وغير المسرّبة، واعترافات النساء اللواتي عرفهن، و"صداقته" مع جيفري إبشتاين، خاطف المراهقات ومنظِّم دعارتهن القصرية، المنتحر في سجنه، بل اعتزازه بالاقتران بمن تصغره بعقدين ونصف.. كلها تشي بأن مسيرته محفوفةٌ بتفاخره بمغامراتٍ من أجل الأصغر "سناً"، والأكثر "جمالاً" من بين النساء.
ولكن ثمّة نساء أخريات لا يلعبنَ بالضرورة دور "الجائزة"، إنما دور الاعتراف بالمقام وبالقيمة. كيم كاردشيان، بطلة تلفزيون الواقع، المشهورة لأنها مشهورة، النجمة العالمية في مواقع التواصل، ببرَكة ردفيها وصدرها وفخذيها. لم تفعل شيئاً في الحياة غير تصويرها، 
وإرسال زواياها المختلفة إلى ملايين المعجَبين بشهرتها؛ فهي من "المشاهير"، ومن خرّيجي مدرسة التلفزيون نفسها، مثل ترامب، قبل توليه الرئاسة. في الصيف المنصرم، يستقبلها ترامب، تغطيهما حملة تصوير تصدّرت الإعلام الغربي كله تقريباً. كيم كاردشيان باعته صورة المرأة التي تشبهه، مضموناً، وربما شكلاً، على ما يمكن أن يتصوَّر هو.. الناجحة مثله في العالم الافتراضي، هو تويتر، وهي إنستغرام، المشهورة مثله، الأسطورة مثله. قال عنها، على "تويتر"، إنها "شخص رائع"، وإنها قامت بـ"عمل مدهش"، وزاد من شهرتها بأن أعفى ترامب سيدة مسنّة من السنوات المتبقية لها في السجن، بناء على طلبها. ومن نتائج هذا اللقاء "التاريخي" بين هذين "العملاقَين"، اجتماع عُقِد أوائل هذا الشهر (سبتمبر/ أيلول) بين كيم كاردشيان وإيفانكا ترامب وجاريد كوشنر (ابنة ترامب وصهره)، عنوانه "جلسة عمل"، من أجل البحث في شؤون السجون.. وهكذا تكون الخدمة الرمزية بين النجمين التوأمين متبادلة.
وما يبقى من سؤال: هل ترامب ظاهرةٌ تعبّر عن هوان الديمقراطية؟ في الولايات المتحدة، حيث أقواها، وفي بريطانيا حيث أقدمها؟ وما مصدر هذا الهوان بالضبط؟ أو مصادره بالأحرى؟ هل اليأس هو الذي جلبه، أم هو الذي جلب اليأس؟ هل ترامب نتيجة أم سبب لهذا اليأس؟ هل العالم الافتراضي قلّل من يقَظة الناخبين، وأغرقهم في بحور التعامي أو التسليم أو اللامبالاة؟ هل النظام نفسه الذي صعّد أوباما إلى الرئاسة، عاد فأعطى حظوظه لنقيضه؟ على الأقل ظاهريا نقيضه، أو من حيث الأسلوب وحسب؟
لم تبدُ الديمقراطية ضعيفة إلى هذا الحدّ منذ سقوط هتلر، الزعيم الألماني الآخر الذي أتى بانتخاباتٍ ديمقراطية، وعمل بألمانيا والعالم العَمْلات.. لكن أيضا، الفرق بين هتلر وترامب أن الأول أراد الحرب وخطّط لها، فيما ترامب لا قرار له، لا في الحرب ولا في السلم، فمن يكون الأخطر على الديمقراطية، وعلى البشرية بأسرها؟