في ضرورة تفتيت يقينيات الشخصية الامتثالية

في ضرورة تفتيت يقينيات الشخصية الامتثالية

02 سبتمبر 2020

(محمد العامري)

+ الخط -

أحد الأسئلة التي وُجّهت إليّ، بصفتي كاتبة سورية، في منصة حوارية خلال فعاليات نشاط ثقافي في البيت الثقافي في برلين: لمن تكتبين؟ أو إلى من تتوجهين في كتاباتك، إلى السوريين في الداخل أم إلى السوريين في الخارج؟

سؤال يبدو مشروعًا لغير السوري، للمراقب الذي يرى المشكلة السورية من خلال الإعلام والواقع في بلد اللجوء، من خلال رصد (ومتابعة) سلوك السوريين وأنشطتهم وخطابهم في المجتمعات الجديدة، وربما من قراءته بعض الكتب البحثية أو الروايات أو ما أنتجه الأدب في هذه السنوات وما قبلها، لكن الواقع بالنسبة للسوري مختلف تمامًا. وقد يكون سؤال من هذا القبيل غير مفهوم أو مبرّر، والسوري، إن كان يقرأ، وأظن أن الحرب والانهيار الذي نجم عنها في كل مناحي الحياة قد قضت على الشريحة القارئة، على الرغم من قلة عددها، فإنه يهتم بكل ما يكتب، لأن الحرب مهما كشفت وعرّت الواقع، ومهما ظهر من تشظّي المجتمع السوري، ومن عيوبه وأمراضه المستحكمة، إلاّ أن كل هذه الأمراض والأعراض يعاني منها السوريون بالتساوي، فهم خلال عقود، بل أكثر، كانوا يخضعون لعملية تطبيعٍ مع فكر الطغيان المتعدّد وتجذير أدواته، وتأسيس أفراد وجماعات امتثالية قدرتها على التفكير وطرح الأسئلة مشلولة، وهي تُخضع كل أشكال الحياة ومظاهرها إلى مسلماتٍ وحقائق منجزة يجب أن تُصاغ الحياة بموجبها.

أنجزت عقود من الاستبداد المتعدد والمتحالف شخصيات فردية امتثالية، وجماعات امتثالية تعيش ضمن قوالب محكمة

فلو اتخذنا قضية الأعراف والتقاليد المهيمنة والناظمة لحياة غالبية السوريين الخاضعة لثقافة بطريركية، لا فرق بين مكوّنات الشعب كلها، سوف نرى أنها انتقلت معهم إلى بلدان اللجوء، وغالبيتهم يحاولون بناء حياة موازية لحياة المجتمعات المضيفة، بل يمكن أن يلجأوا إلى العيش في أحياء شبه مغلقة، كي يمارسوا خصوصيتهم وحذرهم، ويحموا هويتهم القلقين عليها باستمرار، متذرّعين مسبقًا بقاعدة تقول إن الانفتاح على المجتمع الغربي سوف يفسد الأبناء، وينتهك الهوية العربية والإسلامية، وهذا أبشع شيء يمكن أن يتعرّض له المرء. إحدى القصص التي تكرّرت مرّات عديدة، في ألمانيا مثلاً، حيث تُكتب هذه السطور، حيث يعيش أكبر عدد من السوريين نتيجة أكبر موجة لجوء شهدها العالم منذ عقود، نرى أن ذوي البنت ما زالوا يضعون القيود الصارمة على زواجها، من حيث مقوّمات الشاب الذي يجب أن ترتبط به، وشروط تحقيق الزواج، فيطلبون المهر بمبالغ عالية لا يقدر الشاب على تأمينها، كما حصل مع شاب سوري أخيرا تعرّف إلى زميلته السورية في الكلية ذاتها، وقرّرا الارتباط، لكنه عندما راح يخطبها من ذويها الذين يعيشون في ألمانيا أيضًا، طلب والدها مهرًا قيمته خمسة وعشرون ألف يورو. المهر الذي هو مجال نقاش حتى في البلدان الإسلامية، أو التي تدار حياة المجتمع فيها بموجب الثقافة الإسلامية، وتضبطها قواعد الدين والشريعة، فكيف في بلد المؤسسات والقوانين والدستور الذي يضمن الحقوق بلا تمييز، ويسعى إلى تحقيق المساواة، وتأخذ المرأة مكانها في ميدان العمل، متجاوزة حدودًا كبيرة من التوزيع الاجتماعي للمهن، بحسب التقاليد والأعراف؟ فالمرأة تدخل كل مجالات العمل هنا، والقوانين تضمن لها كامل حقوقها، بل إنْ مورس بحقها أي شكلٍ من أشكال التمييز، فإن القانون بجانبها ويحميها. وفي المقابل، تدخل المرأة غالبًا سوق العمل مثل الرجل، وتخوض في كل الميادين. وبالنسبة إلى الزواج وتكوين الأسرة، يفرض القانون والثقافة السائدة على الزواج قواعد وقوانين ناظمة، من حيث المساهمة في الحياة ورعاية الأولاد والأسرة والمشاركة في الأعباء. وإذا حصل الطلاق، توزّع الملكية بالتساوي، أما الذي يكون مقتدرًا أكثر من الزوجين، فإنه يقدّم إلى الآخر، لا فرق بين امرأة ورجل، فإذا كانت القوانين تضمن الحياة الكريمة وتضمن الكرامة وتضمن الشيخوخة والمستقبل، وللمرأة فرصة الاستقلال المادي، فلماذا يصرّ السوريون على المهر؟ 

انتقلت العادات والتقاليد مع السوريين إلى بلدان اللجوء، وغالبيتهم يحاولون بناء حياة موازية لحياة المجتمعات المضيفة

الأمر بالدرجة الأولى ليس الاستقلال المادي هو الذي يحقق تمكين المرأة في مجتمعاتنا، إنْ في الداخل السوري أو في بلدان اللجوء. المشكلة أكبر من ذلك، إنها تتعلق بتفتيت منظومة قيم وثقافة تساوي المرأة بالسلعة المعروضة للبيع، أو تحبسها ضمن صورةٍ نمطيةٍ على أنها دون الرجل، وأقل كفاءة منه، وبحاجةٍ إلى وصايته، بل الحقيقة أن معظم النساء السوريات كان استقلالهن المادي سببًا إضافيًّا في عبوديتهن، فهن مناضلات على كل الأصعدة، يعملن ساعات عمل لا تقرّها أكثر القوانين جورًا، فهنّ يعملن خارج البيت وداخله بصورة متواصلة، ولم يقدّم الاستقلال المادي لهنّ أيّا من شروط الحرّية.

هذه القصة على سبيل المثال، إذ يمكن القول إن قدرة السوريين، بشكل عام، على التحرّر من الموروث، وابتكار حياتهم خارج القيم واليقينيات السائدة مشلولة، على الرغم من فاتورة الدم التي دفعت، وأي محاولة لاختراق سقف الوعي السائد سوف ينجم عنها صراع عنيف على أكثر من صعيد. لذلك دفع الخوف من التغيير معظم فئات الشعب إلى التمسّك بالماضي وإرثه، وازداد هذا الخوف وانعدام القدرة على التفكير بواقع أفضل الحصار المفروض على الحياة، ليس الحصار بسبب اللعبة السياسية والحرب فقط، بل حصار القدر، ومنه وباء كورونا. 

لا يكفي أن يكون ما يكتب يُنجز في اللحظة الراهنة، بل يجب أن تنتمي إلى اللحظة الراهنة بكل متغيراتها

ما أنجزته عقود من الاستبداد المتعدّد والمتحالف ليس فقط شخصيات فردية امتثالية، بل جماعات امتثالية تعيش ضمن قوالب محكمة، وتعتبر أن الحركة ضمن هذه القوالب أو الغرف المغلقة هي دليل تغيير وتطور، بينما الواقع المتغير يقبع خارجًا وتزداد الهوّة اتساعًا بينه وبينها. وبعد أكثر من تسع سنوات على الجحيم السوري، ما زالت الأدوات المعرفية ذاتها تتحكّم بوعي الناس، وما زال الأفراد يبنون حصونهم في وجه بعضهم بعضا، ويبنون شخصياتهم ليصبحوا سجناء داخلها، وما زالت اليقينيات التي يتلقفها كل جيل من الذي قبله أكثر النواظم الضابطة لحياتهم. صحيحٌ لا يمكن إغفال الخيبة التي مني بها السوريون في كل مناطقهم وفئاتهم وشرائحهم، بعد أن انزلقت البلاد إلى الدمار والانهيار، بدلاً من أن يحقّق الشعب أحلامه وطموحه بحياة تحقّق له كرامته، ويشعر معها بإنسانيته ودوره الفاعل في بناء وطنه وحياته الخاصة أيضًا، وأكثر ما تجلّت الخيبة كانت تجاه الطبقة السياسية، لا فرق بين نظام ومعارضة، فمعظم السوريين شعروا بأنهم كانوا وقودًا رخيصًا لحرب أرخص، لم يربحوا شيئًا، بل خسروا ما كانوا قد اكتسبوه على قلّته، وصارت الحياة السابقة لانتفاضة الشعب النموذج المشتهى الذي يحرّض الحسرة الحارقة في النفوس. ولكن لا يمكن إغفال دور النخب في التوجيه السليم للوعي الجمعي، فلهذه النخب أيضًا عيوبها ومشكلاتها، ومن لا يستطيع الانفتاح على حركة التغيير ويبقى منقادًا إلى ثوابته ويقينياته لا يمكن أن يكون فاعلاً ومؤثرًا. ولا يكفي أن يكون ما يكتب يُنجز في اللحظة الراهنة، بل يجب أن تنتمي إلى اللحظة الراهنة بكل متغيراتها، حتى يكون لها القدرة على التأثير.

صار السوريون اليوم أمام معادلتين بالغتي التعقيد، الأولى كيف تُهدم الجدران بين بعضهم بعضا، وكيف يبحثون عن المشتركات، والثانية كيف يخرجون من شخصياتهم التي أحكموا إغلاقها ويهدمون سقوف اليقينيات، فمهما كان الثمن لن يكون أكثر مما دُفع. كان عليّ الردّ بأنني أكتب إلى السوريين جميعًا، من هم في الداخل، ومن هم في الخارج، فألمهم متشابه حدّ التطابق. 

دلالات