في ضرورة المقاطعة الثقافية وتأثيرها

في ضرورة المقاطعة الثقافية وتأثيرها

30 أكتوبر 2019
(كاملة شمسي)
+ الخط -

أعادت قضية سحب "جائزة نيلي ساكس" من الروائية الباكستانية البريطانية كاملة شمسي، في أيلول/ سبتمبر الماضي، لدعمها حركة مقاطعة إسرائيل، إلى الأذهان ما حدث سابقاً مع الروائية الفلسطينية الأميركية سوزان أبو الهوى عام 2011، حين تعرضت لهجوم مماثل عليها للسبب نفسه إثر صدور كتابها "صباحات جنين". حدث الكثير بين 2011 و2019، ووسمت جهات في ألمانيا حركة BDS بمعاداة السامية.

هذا القرار وبالرغم من محاولته إلباس "حركة مقاطعة إسرائيل ثقافياً واقتصادياً" ثوباً ليس ثوبها، إنما يدل أيضاً على أن الحملة مؤثرة، وأنها توجع الكيان الصهيوني، وأن ثمة من يحاول بكل السبل التأثير على صناع القرار في المؤسسات الرسمية الأوروبية لتضييق الخناق على الحملة وتشويه سمعتها وتصويرها ليس كحركة مقاومة للاحتلال، بل كحركة عنصرية تعادي اليهود.

التضامن الواسع النطاق مع كاملة شمسي في أوساط الفنانين والكتاب من مختلف الجنسيات، والرسائل المفتوحة "دعماً للحق في المقاطعة" التي نشرت في الصحافة البريطانية بتوقيع كتّاب فازوا سابقاً بهذه الجائزة، أظهر بعداً آخر من أبعاد الدوافع الكامنة وراء القرار الذي جاء في خضم معركة سياسية ضارية في ألمانيا حول حركة مقاطعة كيان استعماري خارج على القانون الدولي وكل الأعراف الإنسانية. ونعني بهذا البعد اتساع حركة المقاطعة وتأثيرها وانتشار المؤيدين لها على صعيد عالمي، وخاصة في البلدان الأوروبية، والخشية من الوصول إلى نزع "الشرعية" عن هذا الكيان التي أضفتها عليه قوى الاستعمار الغربي بقرار أممي انتزع انتزاعاً بالتهديد والوعيد تارة وبالترغيب تارة أخرى.

ما حدث يلفت أيضاً إلى ضرورة المقاطعة الثقافية وتأثيرها، إلى جانب أشكال المقاطعة الأخرى سياسية واقتصادية وأكاديمية وطلابية يقودها ويقوم بها أساتذة وطلبة وفنانون وكتاب ونقابات مهنية وتعليمية وبعض الكنائس التي سحبت استثمارات كانت لها في هذا الكيان.

ولعل أهداف حركات المقاطعة الثلاث، وخاصة حركة مقاطعة إسرائيل وسحب أموال الاستثمار منها ومعاقبتها، والتي تستجيب لمقتضيات تطبيق القرارات الأممية الخاصة بفلسطين، هي الأكثر إيلاماً لهذا الكيان الاستعماري، وتذكيراً بمصير نظام جنوب أفريقيا العنصري الذي تمت تصفيته في عام 1991. وأول هذه الأهداف هو إنهاء احتلال إسرائيل واستعمارها لكل الأراضي العربية وإزالة جدار الفصل العنصري، وثانيها هو الاعتراف بحقوق متساوية للعرب الفلسطينيين في "إسرائيل"، أما الهدف الثالث فاحترام وتعزيز وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم وأملاكهم تطبيقاً لقرار الأمم المتحدة رقم 194.

وبالعودة إلى شمسي، فقد انقلبت بقدرة قادر من كاتبة "تبني جسوراً بين المجتمعات والثقافات" (كما وصفتها لجنة التحكيم) إلى "أن مواقفها هذه تتعارض مع أهداف الجائزة التي تنص على الدعوة إلى المصالحة والتقارب بين الشعوب والثقافات وتجسيدها" (بحسب لجنة التحكيم أيضاً).

هذا الهجوم على حق شمسي في التعبير عن رأيها ومقاطعة ما ترى، محقة، أنه كيان استعماري غاصب لا يمتثل للقانون الدولي، يأتي في سياق رد الأوساط الصهيونية وأنصارها، في الدول الغربية بخاصة، على أهداف وأشكال هذه المقاطعة الآخذة بالتوسع واكتساب أصوات مؤيدة في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية والاقتصادية على صعيد العالم.

ففي لقاء تلفزيوني أجرته القناة الإخبارية الرابعة البريطانية مع شمسي، مؤخراً، وصفت سحب الجائزة بأنه أكبر من مجرد تراجع عن قرار منح جائزة؛ بل إنه موضوع يرتبط بالهجوم على كل من يساند الحركة الداعية إلى مقاطعة "إسرائيل" وسحب أموال الاستثمارات منها وتوقيع عقوبات دولية عليها، مبيّنة أن "الواجب يقضي باعتبار الوقوف مع أعمال إسرائيل الوحشية ضد الفلسطينيين أمراً مخزياً وظالماً وليس معاقبة من يقفون إلى جانب الحق الفلسطيني".

بالنسبة إلى سوزان أبو الهوى، فقد تعرضت إلى حملة مماثلة، كانت أيضاً بسبب موقفها المساند لحركة المقاطعة حيث ألقت خطاباً في أول مؤتمر للحملة في جامعة بنسلفانيا الأميركية، إلى جانب سبب آخر وهو الرواج الواسع الذي لقيته نصوص لها جُمعت في نص واحد كانت بذرته قصة "ندبة داود" المستوحاة من رواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني، ونشرت بعد ذلك بالإنكليزية تحت عنوان "صباحات في جنين" (2010)، ثم تحت عنوان جامع باللغة العربية هو "بينما ينام العالم".

ويمثل هجوم الفرنسي الصهيوني برنار هنري ليفي على هذه الرواية نموذجاً يكرر تهمة "معاداة السامية" المبتذلة ضد من يتصدى للجرائم الصهيونية في فلسطين والبلدان العربية المجاورة. فرأى فيها من هذا المنطلق "تجميعاً لصيغ مكرورة ضد إسرائيل واليهود تحت قناع رواية". أحسنت أبو الهوى الرد عليه في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2011، حين أعادت إلى الأذهان قضية فلسطين إلى جذورها بقولها: "يتهمنا السيد ليفي بأننا نشيطن إسرائيل، بينما كل ما نفعله هو إزاحة الستار ولو قليلًا، لنكشف عن حقيقة سوداء يريد إبقاءها محجوبة. وأظن أنه يشعر، مثل أغلبية اليهود الداعمين لإسرائيل، بـأنه يمتلك حقاً في حقول جدي أكثر مني أنا.. أليس هذا هو الأساس الذي قامت عليه إسرائيل بالفعل؟".

بالنسبة لألمانيا، التي حدث فيها ما حدث من منح لـ"جائزة نيلي ساكس" ثم إلغائها بحجة متهافتة، فنحن ندخل هنا منطقة خطرة أو أرضاً ممنوعة إذ إن الحديث أو الكتابة عن "إسرائيل" غير مقبول، كما تقول إيريس هيفتس، رئيسة الجمعية الألمانية المسماة "صوت يهودي من أجل سلام عادل في الشرق الأدنى"، والتي تساند الدعوة الفلسطينية إلى مقاطعة "إسرائيل" وسحب أموال الاستثمار منها وفرض عقوبات عليها.

تضيف هذه الناشطة "أنت محكوم عليك بالعيش في خوف إذا أردت قول شيء عن إسرائيل"، وكان أعضاء هذه الجمعية قد تعرضوا للذم ووصفهم زعماء يهود بأنهم "معادون للسامية"، وأنهم "نوع من اليهود الكارهين ليهوديتهم" أو "هم يهود خطأ"!

دلالات

المساهمون