في صناعة التغيير

في صناعة التغيير

21 يوليو 2020

(هاني حوراني)

+ الخط -

التغيير أحد أهمّ قوانين الكون أو سننه الطبيعيّة، وهو ناتجٌ، بشكل أو بآخر، من الحركة، حركة الذرات والعناصر، دوران المجرّات والكواكب، حركة المجتمعات البشرية وانتقال الإنسان في الجغرافيا والتاريخ. لقد ثبت للإنسان عبر الزمن، من خلال العلم والمنطق والملاحظة والمقارنة والتجريب، أنّ العالم لم يقف، في أيّة لحظة، على ما هو عليه، وهذا على الأقلّ حتى الآن، أي حتى اللحظة الراهنة من حدود المعرفة البشرية.
يتغيّر الكون، وتتغير معه أرضنا الصغيرة الزرقاء، في كل قطرة مطر تهطل، وفي كل ذرّة غبار تهبط، وفي كل خفقة قلب تخفق، وفي كلّ نسمة هواء تهبّ. يتغيّر العالم، في كل جزء من الثانية لا يعود الكون كما كان قبلها. كذلك في المجتمعات، يحصل التغيير كل لحظة وكل ثانية، من خلال تفاعل القوى المختلفة، ومن خلال صراع المصالح وتناقض الأضداد، من خلال تمازج الثقافات وتطوّر العلوم، من خلال حوار الأديان والأمم.
يقول كانتْ في مقدمة كتابه "نقد العقل العملي": "تجنّبُ فعل الشر نتيجة الخوف من العقاب في الآخرة، أو فعل الخير طلباً للمكافأة في الآخرة أيضاً، لا يُلاءم مع القانون الأخلاقي، ولا تُشتق منه الأخلاق. وهو أيضاً لا يُلاءم مع الحرية كأساس لها". لقد وضع كانتْ الحريّة الإنسانية محوراً أساسيّاً في فلسفته، واعتبر أنّ الإنسان الحر هو القادر على بناء المجتمع، انطلاقاً من قواعد الأخلاق التي هي برأيه مقدّمة على التعاليم الدينية في الريادة والأثر، وفي صناعة المجتمع والإنسان.
بحث الإنسان دوماً عن تفسير للوجود، وليس صحيحاً، كما قال ماركس وأتباعه، أنّ مهمة تغيير العالم بدأت مع وعي الفلسفة، مهمتها الحقيقية من خلال وعي الفلسفة الماديّة التاريخية ذاتها، بل كان هذا التغيير قائماً منذ أول محاولة فهم للوجود قام بها الإنسان. لا يمكن أن نعزل آخر نظريات العلم في مجالات الفيزياء الدقيقة عن تجارب السومريين والفراعنة في صناعة أدواتهم البدائية. ولا يمكن أن نجرّد موسيقى موتسارت وبيتهوفن عن صيحات الهنود في جنوب آسيا، ولا عن أغاني أهل حضارة المايا في القارّة الجديدة. وكما هي فلسفة شوبنهاور وهيغل وسارتر امتداد، بشكل أو بآخر، لفلسفات سقراط وأفلاطون وابن رشد، هي كذلك رحلة إنسان القرن الواحد والعشرين في الفضاء وعلى سطح القمر، متابعةً لخطواته الأولى في سهوب الشرق الإفريقي، حيث خطى الهومو سابينز أولى خطواتهم نحو الغرب لافتتاح العالم.
وعلى الرغم من الفروق الكبيرة التي تبدو لنا بين مجتمعات الدول المتقدّمة في الغرب ومجتمعات الدول النامية أو مجتمعات العالم الثالث، إلا أنّ القياس بمعايير نسبيّة يفيد بأن هذه الفروق صغيرة جداً، إن أردنا التعبير عنها بلغة القيم المطلقة، فالمرأة في الغرب تعاني بشكل أقل بكثير من معاناتها في الشرق، لكنها لا تزال أسيرة عقلية المجتمع الذكوري بكل تأكيد، والعنف ضدها يفرق بالدرجة أو بالكميّة، لكنه بشكل مطلق لا يفرق بالنوعيّة.

المرأة في الغرب تعاني بشكل أقل بكثير من معاناتها في الشرق، لكنها لا تزال أسيرة عقلية المجتمع الذكوري بكل تأكيد

"تشير البيانات التي نشرها مكتب الإحصاء الوطني إلى مقتل 80 امرأة على يد الشريك الحالي، أو السابق، في الفترة بين إبريل/ نيسان 2018 ومارس/ آذار 2019 - بزيادة قدرها 27% عن العام السابق. وارتفع العدد الإجمالي للنساء ضحايا جرائم القتل في إنكلترا وويلز بنسبة 10% في العام الذي ينتهي في مارس/ آذار 2019، وهو أعلى رقم يُسجَّل منذ 13 عاماً. وقد قضى نصف هؤلاء الضحايا تقريباً في جرائم قتل منزلية، مع كون المشتبه فيه شريك الضحية وقت الجريمة، أو شريكها السابق في 38% من الحالات". وبحسب إحصائيات نشرها موقع "ذا تايمز أوف إسرائيل"، الناطق بالعربية في 4/7/2020، ونقلاً عن معطيات نشرتها المنظمة النسائية الصهيونية الدولية، يعتقد أن مائتي ألف امرأة في إسرائيل ضحية العنف الأسري، وأن نحو نصف مليون طفل يشهدون العنف في المنزل. وبالمقارنة مع الحال في تركيا، ذات نظام الحكم العلماني الديمقراطي، في بلد أغلبية سكانه من المسلمين، نجد أن الوضع شبيه. فحسب تقرير صادر عن منظمة هيومن رايتس ووتش: "يعاني نحو 42% من النساء فوق سن الـ 15 في تركيا، و47% من نساء المناطق الريفية، من العنف البدني والجنسي على أيدي الأزواج، أو شركائهن، في مرحلة ما من حياتهن، وفقاً لاستطلاع أجرته جامعة تركية هامة في 2009. ويستند التقرير إلى ملفات قضايا ومقابلات مع 40 امرأة في مدن فان وإسطنبول وطرابزون وأنقرة وأزمير وديار بكر، وعشرات اللقاءات مع محامين ومنظمات نسوية واختصاصيين اجتماعيين ومسؤولين حكوميين، وغيرهم من الخبراء".

ارتفع العدد الإجمالي للنساء ضحايا جرائم القتل في إنكلترا وويلز بنسبة 10% في العام الذي ينتهي في مارس/ آذار 2019، وهو أعلى رقم يُسجَّل منذ 13 عاماً

هذه عيّنات من ثلاثة مجتمعات، تختلف فيها الأديان السائدة، وتقترب من بعضها في أنظمة الحكم، وتتفاوت فيها مستويات التطور الصناعي والثقافي والاجتماعي، لكن تجمع بينها مشكلات كثيرة ما زالت البشرية تعاني منها، على الرغم من التطوّر الظاهري الكبير في شتى مناحي العلوم. ويفيد هذا كلّه بأنّ المجتمعات البشرية لا تزال متقاربة في نظرتها العامة إلى ذواتها وإلى الأفراد فيها، وإن كان الاختلاف بين مجتمعات الدول المحكومة ديمقراطياً والمحكومة بأنظمة استبدادية يبدو كبيراً، خصوصاً من ناحية حقوق الإنسان والعلاقة بين السكان أو المواطنين والسلطات، والعلاقة بين السلطات في الدولة ذاتها، إلا أن الخلافات لم تصل بعد إلى مستويات نوعية في كثير من القضايا الجوهرية.

أي الطرق أفضل لصناعة التغيير، السلمية التي تبني على التراكم والإنجازات الصغيرة والثابتة، أم العنيفة التي تقلب الأسس والقواعد رأساً على عقب؟

هكذا تصنع المجتمعات البشرية التغيير، وهكذا يتأثر بعضها ببعضها الآخر، وما لا ينفع معه التراكم والتغيير البطيء، تأتي الثورات لتقلبه رأساً على عقب. فمنذ ثورات العبيد في روما، مروراً بثورات الزنج في بغداد، ووصولاً إلى ثورات الربيع العربي، واحتجاجات السترات الصفراء في فرنسا، والمظاهرات ضد التمييز العنصري في أميركا، ما زال البشر يتعلمون من بعضهم، ويطوّرون خبراتهم في صناعة التاريخ وفي تغييره. وكما تأثرت حقوق النساء في عوالمنا الشرقية بنضالات الحركات النسوية في أوروبا وأميركا، تأثرت شعوب هذه البلدان بموجات الربيع العربي الأولى، خصوصاً في مرحلتها السلمية.
ويبقى السؤال الأكثر طرحاً للنقاش: أي الطرق أفضل لصناعة التغيير، السلمية التي تبني على التراكم والإنجازات الصغيرة والثابتة، أم العنيفة التي تقلب الأسس والقواعد رأساً على عقب، وتهدم القديم كلياً؟ والإجابة ليست بتلك السهولة، فهي مرهونة باعتبارات وظروف ومتغيرات كثيرة، إن صلحت هنا مقياساً للحكم، لا تصلح هناك له بالضرورة، لكن يبقى أنّ التغيير جوهر أساسي لا يتغيّر.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود