في صحبة حرامي الأنبوبة (1)

في صحبة حرامي الأنبوبة (1)

11 فبراير 2016

نشرت الدستور عبر تاريخها موضوعاتٍ صحافية جريئة

+ الخط -

كانت قد مضت أيام قليلة على خلع حسني مبارك، وكانت تلك المرة الأولى التي أعبر فيها منذ فترة، بجوار مبنى محاكم الجلاء المحترق، والملاصق لمبنى مؤسسة الأهرام في وسط القاهرة. يومها، كان كوبري أكتوبر مزدحماً كعادته، ما ساعدني على تأمل تفاصيل المبنى المحترق جيدا، ليندهش من معي، وهم يرونني أتنهّد وأضرب كفاً بكف، وأنا أتذكّر بمزيج من الشجن والأسى، وقائع ذلك اليوم العصيب من أيام مارس/ آذار 1998، الذي قضيت بعض ساعاته بداخل هذا المبنى، كتفاً إلى كتف، أو قل كفاً إلى كف، بصحبة حرامي الأنبوبة.

...

كنا في أواخر شهر فبراير/ شباط 1998، حين وقعت بالاستلام على استدعاء نيابة السيدة زينب للتحقيق العاجل بتهمة إفشاء أسرار عسكرية ومخالفة قانون تنظيم الصحافة. كانت صحيفة الدستور في إصدارها الأول قد أغلقت، قبل أيام، بقرار رئاسي حاسم وغير مكتوب، بعد حوالي عامين وثلاثة أشهر من مناورات مريرة ومبهجة ـ على طريقة (علي الزيبق)، مع أجهزة الأمن والرقابة والإعلام، لكي تصل الصحيفة إلى قارئها المصري بانتظام، حتى وإن تعرضت لرقابة غاشمة غشيمة، تشوّه صفحاتها كل أسبوع، فقد كانت الصحيفة حاصلةً على ترخيص قبرصي، ما كان يلزمها بالعرض على الرقابة بعد الطبع، وقبل السماح بتوزيعها داخل مصر.

كانت الصحيفة قد نجحت في التحايل على كثير من القيود الرقابية، بفضل فهلوة ناشر الصحيفة المرحوم عصام إسماعيل فهمي، وخبرته العريضة في التعامل مع الأجهزة الرقابية، فقد كان قبل إصداره الصحيفة، صاحب شركة "ساوند أوف أميركا" للكاسيت التي اشتهرت بإنتاج بعض ألبومات محمد منير، ثم صاحب دار نشر سفنكس التي نشرت عددا من الكتب الرائجة للأستاذين عادل حمودة وإبراهيم عيسى، وقد مكّنته علاقاته الواسعة بموظفي الرقابة، من "تجنيد" مسؤول داخل مكتب الرقابة، ليقوم، لقاء مقابل مالي شهري، بالمجيء إلى الصحيفة ليلة الطبع، ليطلع على موادها، ويوصي بشطب ما لا يمكن السماح بنشره طبقاً للتعليمات الأمنية الموجودة لدى الرقابة، فيصبح علينا أن نبتكر له بدائل، فإن كان موضوعاً كاملاً، يرى الرقيب أنه يستحيل السماح به، قمنا بإيجاد بديل له، أو قمنا بالتفاوض معه على تغيير عنوانه، أو حذف بعض فقراته، ليتم طبع الصحيفة فجر كل ثلاثاء، بعد أن يوافق الرقيب ودياً على أن ما بداخل العدد لن يقوم بزعزعة استقرار الدولة، ولن يهدم ثوابت المجتمع، ولن يخالف الدستور والقانون.

وعلى الرغم من ذلك الاختراق لجهاز الرقابة الذي أَصبح عرفا بعد ذلك، مارسته صحف كثيرة حاصلة على تراخيص أجنبية، كانت صحيفة الدستور عرضة في كل شهر تقريباً، لمن يتهمها، في بلاغاتٍ رسميةٍ، بزعزعة استقرار الدولة وهدم ثوابت المجتمع ومخالفة الدستور والقانون، ويتهم الرقابة بالتقصير في دورها في حماية المجتمع مما يرد بالصحيفة من أفكارٍ هدّامة، ولأن "الإفراج" عن الصحيفة، طبقا للمصطلح المستخدم رقابياً، لم يكن من دور رقيبنا "الودي"

وحده، فقد كان يحدث، أحياناً، أن يكون هناك رأي آخر لرئيسه لطفي عبد القادر الذي ارتبط به منصب مدير جهاز الرقابة على المطبوعات، بعد أن لبث فيه عقودا عددا، وكان، بحكم خبرته الطويلة، رقيباً، يدرك أن بعض الموضوعات ستثير زوابع بعد نشرها، فيبلغ عصام إسماعيل فهمي بأنه لا بد من أن يستأذن رؤساءه في وزارة الإعلام، قبل الإفراج عن الصحيفة، وكان رئيسه المباشر هو وزير الإعلام المزمن صفوت الشريف الذي لم يكن يكتفي بسلطته المباشرة على الصحف الحكومية، بل كان يمارس سلطةً غير مباشرة على الصحف الحزبية والمستقلة، سواء كانت حاصلةً على ترخيصٍ من داخل مصر أو خارجها، ولأن أحداً لم يكن يُدرك طبيعة الحسابات التي تدور في عقل صفوت الشريف، فتجعله يقرر الإفراج عن عدد بالكامل، أو مصادرته بالكامل، أو طلب تغيير بعض مواده، كان عصام إسماعيل فهمي يقوم، صباح كل ثلاثاء، بطبع كمية صغيرة من كل عدد، خصوصاً حين يدرك أن هناك موضوعاً أخطر من أن يعبر رقابياً، ليتفاوض، في ما بعد، على تغيير بعض عناوينه، بدلاً من حذفه، وليتم إلصاق قطعة تحتوي العنوان البديل على اللوح الزنكي المستخدم في الطباعة، وكانت تلك التجربة المريرة هي التي تدفع الأستاذ إبراهيم عيسى رئيس تحرير الدستور إلى بذل مجهود في اختيار موضوعات مثيرة لاهتمام القارئ، ويمكن أن تمر بسلام من تحت مقص الرقيب في الوقت نفسه. وربما لذلك اشتهرت "الدستور"، في ذلك الوقت، بموضوعاتها المثيرة للجدل عن التاريخ المصري القديم والحديث والمعاصر والدين والثقافة والفن والقضايا الاجتماعية، والتي لم تكن تجد الرقابة مشكلة فيها، طالما لم تكن تهاجم مباشرة رئيس الجمهورية أو وزارة الإعلام أو الأجهزة الأمنية.

وحين تمكنت "الدستور" من فرض نفسها على الساحة الصحافية في مصر، وأصبح تعرّضها للمصادرة يمكن أن يسبب مشكلة سياسية للحكومة، أصبح موقفها السياسي والصحافي أقوى، وأصبح بمقدورها أن تنشر موضوعات أكثر جرأةً تخص الشأن الداخلي، وتهاجم سياسات الأجهزة الأمنية، وكان ذلك يؤدي إلى اعتراض عصام إسماعيل فهمي نفسه على بعض ما تزمع الصحيفة نشره، لكي لا يتسبب له في خسائر مادية، لو تعرّض العدد للمصادرة، أو لكي لا يؤثر على علاقاته السياسية التي بدأت تقوى وتترسخ، وأيقظت بداخله أحلامه السياسية القديمة، كعضو قيادي في حزب الوفد، لكن الحسابات السياسية المحيطة بالصحيفة تغيّرت، بعد ذلك، بشكل مفاجئ، بعد أن أصبح هناك صراع مباشر بين وزارتي الإعلام والداخلية، وذلك بعد أن نشأت في وزارة الداخلية في عهد الوزير حسن الألفي، وحدة أطلق عليها اسم "الإعلام الأمني"، رأسها اللواء رؤوف المناوي، والذي كان زوجاً لسناء قابيل، الصحافية في "روز اليوسف"، وابن عم الصحافي عبد اللطيف المناوي الذي كان يعمل في مجلة المجلة اللندنية وقتها، ثم رأس "انقطاع الأخبار" قبل ثورة يناير، وبفضل معرفته الوثيقة بالوسط الصحافي، قامت الداخلية من خلال تلك الوحدة بتوثيق علاقاتها برؤساء تحرير كل الصحف والمجلات، بدعوى التكاتف بين الصحافة والداخلية في محاربة الإرهاب.

اعتبر صفوت الشريف عمل تلك الوحدة تدخلا مباشرا في مهامه، وتهديداً لنفوذه على الصحافة، الذي كان بسببه يتمتع بنفوذٍ لدى حسني مبارك، تماماً كما كان فاروق حسني يتمتع بنفوذ لدى مبارك بفضل سيطرته على كبار المثقفين وعلاقاته المباشرة معهم. وفي هذه الظروف، وبفضل غضب صفوت الشريف على وزارة الداخلية، اتسع صدر الرقابة فجأة، واستطاعت "الدستور" أن تنشر طوال عام 1997 موضوعاتٍ صحافية جريئة تهاجم سياسات وزارة الداخلية، بدءاً من معايير القبول في كلية الشرطة، ووصولاً إلى انتهاكات الضباط في الأقسام، وبالطبع، لم يكن يعلم القراء المبهورون بشجاعة "الدستور" أن نشر تلك الموضوعات لم يكن وراءه رفع مفاجئ لسقف الحريات المنخفض في البلاد، بل كانت وراءه تصفية حسابات بين رجالات مبارك، وهو ما لم يكن ليتوقعه القارئ العادي الذي يراهم جميعا ماثلين بكل رضا وحبور في حضرة الرئيس الأزلي، وهو أيضا، للأمانة، ما لم يكن كتّاب "الدستور" وصحافيوها مسؤولين عنه، لأنهم كانوا يؤدون عملهم بكفاءة وإخلاص، ويكتبون ما هم مقتنعون بأهمية وصوله إلى القارئ، تاركين مسؤولية نشره ومروره إلى القارئ للظروف المتغيّرة، والتي انتهت تقلباتها في فبراير/ شباط 1998، بصدور قرار حاسم بإغلاق الصحيفة، بعد أن وقعت في فخ نصبته لها الأجهزة الأمنية بعد مذبحة الأقصر، ولذلك حكاية أخرى، نعود إليها في موضع آخر، ليبدأ عصام إسماعيل فهمي، بعد إغلاق الصحيفة، في خوض معركة قانونيةٍ للحصول على حكم قضائي يتيح له الحصول على رخصةٍ لإصدار صحيفة "الدستور" من داخل مصر، وهو ما حدث بعد ذلك في عام 2005.

طوال الوقت الذي سبق إغلاق الصحيفة، كان التعامل الأسبوعي مع ذلك الرقيب "العرفي"

واحداً من مهامي الثابتة، بوصفي سكرتيراً للتحرير، وقد كانت التجربة، بكل تفاصيلها العبثية، من أكثر التجارب أهمية وإفادة في حياتي المهنية، خصوصاً بعد أن أصبحت، مع مرور الوقت، صديقا لذلك الرقيب الذي لا أعرف أين أراضيه الآن، فحين كانت الصفحة الأولى تتأخر في التجهيز، بسبب انتظارنا بعض التقارير المهمة، لكي تردنا من صحافيي قسم الأخبار، كنت أذهب، أنا وهو، إلى مسمط شهير في منطقة الناصرية القريبة من مقر تجهيز الصحيفة (كنا نقوم بتجهيزها في مقر صحيفة العربي الناصرية بشارع يعقوب بلاظوغلي)، كان الرقيب يعشق النيفة بشكل جنوني، وكنت من عشاق الفتة والممبار، وكان يدهشني فيه حرصه الشديد على أن يدفع حسابه كل مرة، لأنه لا يقبل أن يأكل على حساب أحد، على الرغم من أنه يمارس عملا غير قانوني. وحين سألته مرة عما سيحدث له لو عرف أحد بما يقوم به، قال إجابة هي من أبلغ ما سمعته في حياتي، حيث أمسك بقطعة نيفة ولوّح بها في وجهي قائلا: "مش أنا لوحدي اللي باكل نيفة"، فصارت، من وقتها مثلاً، بالنسبة لي أردده كلما حضرت سيرة فساد صغير أو كبير، ولعلي أعود مرة أخرى إلى المزيد من سيرة ذلك الرقيب الذي كان كنزاً حقيقياً بالنسبة لي، بما يملكه من خبرات وأسرار عن الوسط السياسي والإعلامي، تبدو الآن صغيرة، لكنها لم تكن وقتها كذلك.

... 

يصعب عليّ، بعد كل تلك السنين، أن أنسى يوم استلام ورقة استدعاء النيابة، لسبب بسيط هو أنه كان يوافق يوم مباراة مصر وجنوب أفريقيا في نهائي كأس الأمم الأفريقية. يومها قال لي المحضر الذي شق طريقه بسهولة إلى غرفتي في مقر صحيفة الدستور، الكائن بشارع سعد زغلول: "الحمد لله أنني لقيتك بسرعة يا باشا.. كنت خايف أفضل مستنيك طول اليوم وأضيّع الماتش"، لأفهم منه أنه تلقى تعليمات من رئيس النيابة بأن يرابط في مقر الصحيفة أو أمامها، لكي يسلّمني الاستدعاء، أنا وزميلي سمير عمر (مراسل قناتي الجزيرة وسكاي نيوز في ما بعد)، الذي استُدعي معي للمثول أمام النيابة، لاشتراكنا في نشر موضوع بعنوان "من وراء اغتيال المشير أحمد بدوي". وكان سمير قد قام بسؤال مصادر مرتبطة بالمشير أحمد بدوي عن ملابسات واقعة اغتياله، في حين قمت بعرض كتاب للصحافي محمود فوزي، يتضمن حوارات مع بعض شهود الواقعة الغامضة، وقمت بعدها بصياغة ما كتبه كل منا في موضوع واحد، ولأن ما قام به سمير كان عملاً ميدانياً، في حين كان ما قمت به عملا مكتبياً، حرصت على وضع اسمه قبل اسمي. وحين اقترح أحد الزملاء أن نقوم بتبديل الاسمين، بوصفي سكرتير التحرير، رفضت معتبراً أنه لا يليق بمجهود سمير، ولم أكن أدري وقتها أن ذلك التصرف البسيط سيكون سبباً هو والرقيب ورسالة قارئ في إخراجي بأعجوبة من ورطة مستقبلية، كان يمكن أن أدفع ثمنها "سنتين سجن" على أقل تقدير.

لم يكن موضحاً في ورقة الاستدعاء من هو بالضبط مقدّم البلاغ ضدنا، ولم تفلح "كوباية شاي بثلاث معالق سكر وسيجارتين" في إقناع المُحضَر بأن يعطيني معلوماتٍ أكثر، هي في الأصل من حقي القانوني. ولا أخفيك أن فرائصي ارتعدت، حين وجدت ضمن توصيف التهمة الموجهة إلينا جملة "إفشاء أسرار عسكرية"، فقد تذكّرت أن صديقاً أقدم منا في المهنة يعمل في مؤسسة قومية، قال لنا، عقب نشر الموضوع، إنه يستغرب كيف أجازت الرقابة نشره، خصوصاً أنه يتعلق بقضية عسكرية، كان الجيش وحده الذي قام بالتحقيق فيها، وقد كان في الموضوع ما يشير إلى وجود تواطؤ من بعض قادة الجيش أيام السادات على إغلاق القضية بشكل سريع ـ سأعيد نشر ذلك الموضوع ضمن فصول كتابي "السادات وما أدراك ما السادات" بإذن الله ـ. ولم يكن سر ارتعاد فرائصي له علاقة فحسب بما كان يعرفه كل صحافي وقتها، عن خطورة الوقوع في خصومةٍ صحافية مع الجيش، لأنها ستجلب محاكمةً عسكرية فورية، وسجناً لا يعلم مدته، ولا مكانه إلا الله، قبل أن يكون هناك وسائل اتصال اجتماعي، تتضامن مع المحبوسين، إن خذلتهم الصحف، أو قنوات فضائية يمر صوت المظلومين من خلال برامج يقدمها مذيعون لم تخرب ذممهم بعد، أو منظمات حقوقية متعددة ونشيطة، يشكل أداؤها ضغطاً خارجياً، يمكن أن يكون له أثر في ساعات زنقة النظام وحاجته إلى المعونات والمنح اللازمة للنهب، فقد كنت، بالإضافة إلى ذلك، قد مررت، قبل أشهر من ذلك الموقف، بتجربةٍ مريرةٍ قصيرةٍ بسبب واقعة نشر عادية، لم يكن يخطر على بالي أنها يمكن أن تتحول إلى جريمة عسكرية.

وهو ما أحدثك عنه غداً بإذن الله. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.