Skip to main content
في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا

مدونة عامة

عبد الرزاق دحنون

لو كنت من مازن لم تستبح دمي بنو اللقيطة

أغار ناس من بني شيبان على رجل من بني العنبر يقال له قُريط بنُ أُنيف، فأخذوا له ثلاثين بعيراً، فاستنجد بقومه فلم ينجدوه، فأتى مازن تميم، فركب معه نفرٌ من أهلها، فأطردوا لبني شيبان مئة بعير فدفعوها إليه، فقال هذه الأبيات التي افتتح بها أوس بن حبيب الطائي المكنى بأبي تمام ديوان حماسته الذي ألّفه في محبسه أيام حصار الثلج. فقد قصد الأمير عبد الله بن طاهر في خراسان، ليمدحه، وفي طريق العودة توقف في همذان عند صديق له يُدعى أبا الوفاء بن سلمة، فأنزله الرجل وأكرمه، وكان عنده مكتبة ضخمة. وحين استفاق أبو تمام ذات يوم بنية متابعة طريق العودة، وجد أن ثلجاً عظيماً قد وقع فقطع الطرق ومنع السابلة من السير والخروج من البيوت، فكان ديوان الحماسة الذي جمع فيه شوارد قصائد العرب، ومنها قصيدة قُريط بنُ أُنيف:

لو كنت من مازن
لم تستبح إبلي
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذا لقام بنصري
 معشر خشن
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشر 
أبدى ناجذيه لهم
قاموا إليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم
 حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا
لكن قومي
 وإن كانوا ذوي حسب
ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من
ظلم أهل الظلم مغفرة
ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك
لم يخلق لخشيته
سواهم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم
 قوماً إذا ركبوا
شدوا الإغارة فرسانا وركبانا

جاءت الأخبار من راديو مونتي كارلو في باريس العاصمة الفرنسية بعد أكثر من سبعين ساعة على بدء المجزرة. كان المذيع يبكي وهو ينقل تلك المشاهد المروعة التي حدثت في مخيمي صبرا وشاتيلا

أنا لا أعرف حقيقةً لمَ خطرت في بالي حكاية قُريط بن أُنيف في ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا لأضعها في بداية هذا المقال وأعود بالأيام إلى ذلك الخريف المرّ من شهر سبتمبر/ أيلول عام 1982، ولكن ما قصة شهر أيلول يتشح بالسواد مع سيرة أهل فلسطين؟ عجزت تلك الدول اللقيطة عن الوفاء بوعدها في نصرة أهلنا في مخيمي صبرا وشاتيلا في بيروت التي صمدت في الحصار ثمانية وثمانين يوماً، وقاومت بقدر ما تستطيع أبواب جهنم المفتوحة براً وبحراً وجواً. وعدت بأن تنصرهم، ولكنها خذلتهم، يا لهذا الخذلان ما أوسع أبوابه. فكان رحيل البندقية الفلسطينية على الأبواب. نعم، رحلوا وتركوا أهلهم بلا سند، وكانت البندقية مسند حملهم في حلهم وترحالهم. ويُبكيني إلى اليوم السؤال: كيف ترحل البندقية من حضن المخيم وتترك ألعاب الأطفال معلقة على حبل الغسيل؟

وكان صدى الصوت يرتد من حديد السفن التي تُغادر مرفأ بيروت: لمَ ترحلون وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد، وتعلقون مساءكم فوق المخيم والنشيد؟ وصبرا غطت صدرها العاري بأغنية الوداع، وها هي تعد كفيها وتخطئ حين لا تجد الذراع. صبرا تنام وخنجر الفاشي يصحو. صبرا تُنادي. من تنادي؟  صبرا ودعت فرسانها وزمانها واستسلمت للنوم، من تعب، ومن عرب رموها خلف ظهورهم، كما رمت قبيلة بني العنبر ابنها قُريط بن أُنيف وتركته لمصيره فاستنجد بأهل الشجاعة والإقدام من مازن، فأنجدوه وتقاطرت فرسانهم لنصرته وأخذ حقه مضاعفاً من بني اللقيطة الذين استباحوا إبله.

وأهل صبرا وشاتيلا يستنجدون بمن أيها العرب، بكم، وأنتم شراذم من حكام ودول مستباحة فقدت رجولتها وشجاعة الشجعان وصارت لقيطة زماننا التعبان. ومن هنا ستهاجر العرب لعقيدة أخرى وتغترب. قصبٌ هياكلنا وعروشنا قصبُ، في كل مئذنة حاوٍ، ومغتصبُ يدعو لأندلس إن حوصرت حلبُ.

في صبرا وشاتيلا اختلطت شخوص المسرح الدموي، ولا قاضي سوى القتلى، وكفُّ القاتل امتزجت بأقوال الشهود، وأُدخل القتلى إلى ملكوت قاتلهم. وتمَّت رشوة القاضي فأعطى وجهه للقاتل الباكي على شيء يُحيرنا، سرقت دموعنا يا ذئب، تقتلني وتدخل جثتي وتبيعها. اخرج قليلاً من دمي كي يراك الليل أكثر حلكة، واخرج لمائدة التفاوض، واضحين، كما الحقيقة: القاتل يُدلي بسكين. وقتلى يدلون بالأسماء: صبرا، كفر قاسم، دير ياسين، تل الزعتر، شاتيلا. المجزرة هي المجزرة في كل بقعة من العالم، والقاتل هو القاتل لا يختلف كثيراً من مكان لآخر.

جاءت الأخبار من راديو مونتي كارلو في باريس العاصمة الفرنسية بعد أكثر من سبعين ساعة على بدء المجزرة. كان المذيع يبكي وهو ينقل تلك المشاهد المروعة التي حدثت في مخيمي صبرا وشاتيلا. وتقول صبرا: أكل هذا الليل لي، والليل ملح. يقطع الفاشي ثدييها، يرقص حول خنجره ويلعقه. يُغني لانتصار الأرز موالاً، ويمحو في هدوء لحم صبرا وشاتيلا عن عظمها، ويُجن من فرح لمشهد قتل أبناء عمومته والتمثيل بأجسادهم. صبرا وشاتيلا تقاطع شارعين على جسد، نزول الروح في حجر، صبرا وشاتيلا لا أحد، صبرا وشاتيلا هوية عصرنا حتى الأبد.

ملحوظة: بعض الأبيات التي وردت بالأعلى للشاعر محمود درويش من قصيدته "مديح الظل العالي" لضبط إيقاع المقال.