في ذكرى الثورة الليبية.. جدليات العقيد

في ذكرى الثورة الليبية.. جدليات العقيد

20 فبراير 2017
القذافي (Getty)
+ الخط -

عميد الحكام العرب وملك ملوك أفريقيا والأخ العقيد قائد الثورة ومرشدها، ألقاب منحها لنفسه في سياق تضخيم الذات لرجل حكم أرض المختار أربعة عقود، حتى تلبست به وتلبس بها، فاختفت ملامح الدولة وكأنها لم تكن قبله وكانت نسيًا منسيًا، هكذا تأتي سُنة فعل الطغاة في شعوبهم.

الشاب الذي لم يكمل الثلاثين من عمره، وجاء ظاهرًا على دبابته ترافقه عشيرته العسكرية في أواخر ستينيات القرن الماضي؛ حيث جمهوريات العسكر الناشئة، فحكم ليبيا لسنوات طويلة لا تكاد تبين.

بانقلاب عسكري أتى، ورحل بثورة دامية في نهاية دراماتيكية مأساوية، وما بينهما التاريخ يقف مستعرضًا سياق حياة أكثر حكام العرب جدلا، وإن في هذا لبيان.


الجدلية الأولى.. فلسفة الثورة والحكم
الفاتح من سبتمبر/ أيلول عام 1969 كانت ثورته هو ورفاقه من مجموعة الضباط الوحدويين الأحرار حيث أطاحوا حكم الملك "إدريس السنوسي" وتولوا مقاليد الحكم في البلاد، الشاب الثلاثيني، رأى في نفسه عبد الناصر آخر، وهكذا كان يتفاخر وسط الجموع، وزاد من شغفه بالزعيم المصري ما قاله الأخير بحقه (إني أرى فيك شبابي)، فاستدعى القذافي التجربة الناصرية وتقلدها حتى النخاع، وأصبح رئيسا لمجلس قيادة الثورة في بلاده، وبدت أحلام القومية العربية مسيطرة عليه، وأراد أن تكون ليبيا هي سورية الأخرى لمصر، وأرادها وحدة كاملة، ولكن وفاة ناصر الملهم بددت أحلامه، خاصة مع مجيء السادات بنزعات وسياسات أخرى، وهو الأمر الذي فجر نزاعا وصل إلى درجة شبه الحرب بينهما.

أراد لنفسه في البداية أن يكون زعيما، متجاوزا فكرة الحاكم التقليدي إلى أسطورة تهيمن على البلاد فتمحق كل ما عداها، فشهد الثالث من آذار/ مارس عام 1977 قيادة القذافي لتحول جديد في ليبيا، حيث غير مسماها إلى الجماهيرية العربية الليبية الاشتراكية، كواحدة من نتائج أفكار الكتاب الأخضر الذي طرحه العقيد، ووصف ذلك التحول بوثيقة تسليم السلطة للشعب، وفلسفته في مخيلة القذافي أنه لم يعد حاكماً وإنما هو الأمين العام للمؤتمر الشعبي، وأن الحكم من الآن فصاعدا في يد الشعب عبر المؤتمرات الشعبية الأساسية المعروفة بـ (اللجان الشعبية) ويوجد في كل قرية ليبية مؤتمر شعبي يضم المواطنين فوق الـ 18 عاما.

وأعلن من هنا تسليمه السلطة للشعب، وهو ما كان أمرا هزليا إذ بقيت السلطة ومركزيتها في يد العقيد وحده وعائلته، ولم يقترب منها الشعب قيد أنملة، بل ازداد توحشا وتوغلا على مر السنين، وأقصى كل من عاونوه على استلام مقاليد الحكم، بل اللجان الشعبية نفسها فرض القذافي عليها قيودا.

عام 1988 بعدما أعلن ثورته داخل الثورة، وأعلن أنها انحرفت عن مسارها ومارست القمع والتعذيب، ثم وجّه الدولة إلى سلسلة إصلاحات اقتصادية ليبرالية على النقيض من توجهاته السابقة، ولا عجب في ذلك، فالرجل الذي حوى الشيء ونقيضه كان قادرا على التحول بسرعة ووقتما شاء.

لم يكن القذافي يعترف بتقسيمات العالم من حوله لا أول ولا ثالث، وأضاف إلى ليبيا كلمة "عظمى" وأعلنها جمهورية عظمى في مصاف الدول، وذلك بعد تعرض بلاده للقصف الأميركي في 15 نيسان/إبريل عام 1986 من خلال عملية "إلدورادو كانيون" والتي نتج عنها مقتل العديد من المدنيين وقصف أهداف استراتيجية منها معقل الزعيم نفسه في باب العزيزية في طرابلس العاصمة.

أراد أن يغير وجه ليبيا في كل شيء وكأنها دولة معزولة عن العالم الخارجي حتى في تقويمها للشهور كان متفردا فألغى التقويم الهجري والميلادي، واعتمد تقويم البلاد بداية من وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، وغيّر أسماء الشهور نفسها فأسمى يناير بالنار، وأبريل بالطير، ويوليو بناصر، وسبتمبر بالفاتح.


الجدلية الثانية.. الأمازونيات يحرسن الزعيم
الراهبات الثوريات أو الأمازونيات أو الراهبات الخضراوات ألقاب أطلقت على المكلفات بحماية القذافي ومن العجيب أن تكون المرة الأولى في التاريخ التي يتخذ فيها قائدا حرسا شخصيا من النساء، وقد كلفهن بالأمر في عام 1981 بعدما قدم استقالته من الرئاسة ونصب نفسه مرشدا للثورة، وكانت رؤيته في ذلك أنه من الصعب أن يطلق الرجال النار على النساء، وجاء بهن من منطقة الصحراء الليبية حيث تقول الروايات التاريخية إنها مقر الأمازيغيات المحاربات في الأساطير اليونانية.

تكونت مجموعة الحارسات من 15 امرأة رافقنه في حله وترحاله، وكان ذلك مناقضا لأفكار الكتاب الأخضر للعقيد حيث رأى أن دور المرأة يقتصر على الأمومة والتدابير المنزلية.


الجدلية الثالثة.. الإمام المغيب
في سراديب القذافي المظلمة دخل موسى الصدر ولم يعد بعدها أبدًا، كان ذلك في 31 آب/أغسطس عام 1979 حيث شوهد لآخر مرة. والسيد موسى الصدر عالم دين شيعي وواحد من أهم الشخصيات التاريخية في لبنان خلال القرن العشرين، وهو مؤسس أفواج المقاومة اللبنانية المعروفة بحركة أمل عام 1974، وقد دعاه القذافي لزيارة ليبيا في 25 آب/ أغسطس عام 1979، واستجاب للدعوة وذهب إلى هناك حيث تمت استضافته في فندق الشاطيء بطرابلس، بعدها انقطع اتصاله بالعالم الخارجي، وأحدث اختفاؤه ضجة عالمية وحمل المجلس الشيعي الأعلى والأوساط اللبنانية القذافي مسؤولية غيابه، وكانت ليبيا قد أعلنت رسميا خروج الصدر من مطاراتها إلى إيطاليا، وإيطاليا أعلنت رسميا أنه لم يدخلها، لتظل حالته مسار حيرة وتساؤل على مدار ثلاثين سنة، انتهت بانتهاء القذافي نفسه عندما صرح الرائد عبد المنعم الهوني رفيق العقيد أن الإمام موسى الصدر قد قتل في ليبيا خلال زيارته وتم دفنه في منطقة "سبها" جنوب البلاد.


الجدلية الرابعة.. لوكربي
في الحادي والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1988، كان العالم على موعد مع واحدة من أسوأ حوادث الطيران في التاريخ، إذ تم إسقاط طائرة الركاب الأميركية التابعة لشركة بان أميركان فوق مدينة لوكربي الأسكتلندية، مخلفة وراءها 259 قتيلا.

الطائرة خرجت من مطار فرانكفورت في ألمانيا ووجهتها مطار ديترويت بالولايات المتحدة الأميركية، ومن هنا تأتي جدلية السبب والعلاقة بين القذافي ليبيا وبين الطائرة، وقد وجهت التهم أولا إلى منظمات فلسطينية ثم إلى سورية وإيران وأعداء الولايات المتحدة التاريخيين، ولكن الموجة ساقت الاتهام المباشر إلى العقيد الذي نفى نفيا مطلقا الجريمة، ثم تم القبض على مواطنين ليبيين أحدهما عبد السلام المقرحي الذي كان يعمل في شركة الخطوط الجوية الليبية بمطار لوقا بمالطا، والذي حكم عليه بالسجن بعد ذلك في عام 2001 ليموت بعد عدة سنوات.

بعد ثورة 17 فبراير أعلن وزير العدل الليبي أنه يملك أدلة وقرائن بأن القذافي هو من أمر بتفجير الطائرة الأميركية فوق لوكربي، إلى أن القضية لم تمثل تطورا بعد مقتل القذافي نفسه لتموت بموته جدليتها.


الجدلية الخامسة.. أفريقيا قبلة الملك الحائر
صدمات متعاقبة تعرض لها العقيد على يد الحكام العرب في مختلف المناسبات، وهم الذين واجهوا أطروحاته القومية وأحلام الوحدة تارة بالسخرية وتارة بالنقد اللاذع، بدأها السادات بصدامات شرسة مع الجار الليبي انتهت إلى قطيعة كاملة، وفي تونس الغرب كان بورقيبة له بالمرصاد فقرعه على أعين الحاضرين، ثم ما لبث أن نادى بالوحدة الأفريقية ودعى إلى تكوين الولايات المتحدة الأفريقية، وقال إن ليبيا هويتها أفريقية وليست عربية، وقد كنى نفسه بلقب (ملك ملوك أفريقيا) وتقلد التاج الذهبي ليكون أسطورة أخرى من أساطير الحاكم المطلق العابر لحدود الزمان والمكان.


الجدلية السادسة.. سنعيدها سيرتها الأولى
"تصبح ليبيا جمر، نار حمرا" هكذا توعد ابن جهنم وهي إحدى قرى سرت، وما بين دلالة المسمى وحضور الواقع تنساب الحقيقة دائما، ها هو العقيد يتوعد بمقتلة كبرى وبموت الملايين من أبناء شعبه، وأراد أن تعود البلاد إلى سيرتها الأولى قبل حكمه، لا من حيث النضال والتاريخ وأرض البربر والقرطاجيين والعرب، ولكن من حيث الخراب والدمار، ولكن الثورة أبت إلا نصرا مؤزرا، والذي جاء من سرت التي قتل فيها شر قتلة، على يد ثوار مصراته، فمن جوف الأرض أحضروه وأعدموه على أعين الأشهاد، لتكون نهايته واحدة من أسوأ نهايات الحكام الطغاة عبر التاريخ، وأصبحت الثورة الليبية في 17 فبراير واحدة من أروع وأهم الثورات في قلب ربيع العرب. وبها انتهت جدليات العقيد التي ما زالت تمثل ألغازاً محيرة يصعب حلها بدرجة صعوبة فهم نمط تفكير هذا الرجل الاستثنائي.

المساهمون