في ذكرى الثورة التونسيّة

في ذكرى الثورة التونسيّة

11 يناير 2015
+ الخط -

في الرابع عشر من شهر يناير/ كانون الثاني 2011، عزفت تونس لحنها الثوري العذب، وتمايل الشعب طرباً، تناغماً مع ألحان طالما اشتاق لسماعها سنوات طوال. قبل هذا التاريخ الجليل، كانت قوافل الشهداء تسير خبباً في مشهد قيامي مروّع باتجاه المدافن، بعد أن حصد الرصاص المنفلت من العقال رقاب شباب تبرعم ربيعهم، وأزهر في بساتين العمر الجميل. شباب تقدموا بجسارة مَن لا يهاب الموت، ليفتدوا تونس بدمائهم الزكية، ويقدموا أنفسهم مهراً سخياً لعرس الثورة البهيج.
كان محمد البوعزيزي أوّلهم، حين خرّ صريعاً ملتحفاً ناراً بحجم الجحيم، ثم سقط من بعده شهداء كثر مضرّجين بالدّم، بعد أن أفرغ حفاة الضمير غدرهم في أجسادهم الغضّة التي سالت منها دماء غزيرة. وفي الأثناء، كانت الفضائيات بارعة، وهي تمطرنا بمشاهد بربرية دموية، لا يمكن لعاقل أن يصدّق وقوعها في بلد كان يزعم حاكمه أنّه من مناصري حقوق الإنسان.
ترى، كم احتاجت تونس إلى مثابرة وزخم ودم ليضطرّ الطاغية إلى الرحيل، ويضطر العالم إلى سماع صوتنا الذي ما كان أن يصل لو لم يكن له هذا الثمن الفادح؟ الإرادة وحدها قادرة على تحقيق نصر ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت.
هو ذا الموت، إذن، كاسراً سافراً، متوحشاً، فجائعياً وفرجوياً، وما علينا نحن الذين أمهلتنا أعمارنا، لكي نعيش ونحيا ونرى بعينين مفعمتين بالرفض والتحدي تلك المشاهد الأليمة التي حزّت شغاف القلب، إلا أن نبارك ثورتنا المجيدة، ونرمي وروداً عطرة على أضرحة شهدائنا، شهداء ثورة المجد والحرية والكرامة.
ثورة الكرامة بمعناها النبيل لدى شعب أوغل ليله في الظلم والظلام، تعني الفعل الذي لا يقف عند حدود الكلام والنيات، إنّما هي فعلُ وجود يصرخ أمام كل العالم أنّ القهر غير مقبول، وأنّ الحرية والعدالة مبدآن لا يمكن التخلي عنهما، مهما كانت سطوة الحاكم المستبد، وقدرته العجيبة على مراوغة شعبه، ونهب أرزاقه في دهاليز الظلام.
رسالة تونس الثورية نبيلة في جوهرها، مقنعة بشجاعة شبابها وطلائعها، وقدرة شعبها على الصمود والتحدي، ومن ثم تجسيد أسمى أشكال النضال في سبيل استرداد حقوقه السليبة والمستلبة. ومن هنا، علينا أن نخرج من دائرة المزايدات، وننأى بأنفسنا عن أنشوطة الخوف والترجرج، ونفسح مجالاً لضوء سيصير حتماً بلداً جميلاً.
خرج الصّوت التونسي من الشرنقة التي نُسِجَت حوله، ليعلن، بوضوح تام، أمام العالم أنّ الصّمت موت وغياب، والصمود حضور، كما الفعل الثوري أقوى إنباءً من أيّ كلام.
وإذن؟
هرب المخلوع، يحمل آثاماً ولعناتٍ من الصعب حصرها أو عدّها، تاركاً بلداً يلملم صبره، يكفكف دمعه، ويرنو إلى الأفق استشرافاً لغد أفضل. لم يكن (المخلوع) يهتم بأشعار أبي القاسم الشابي، ولا بهتافات الجماهير التونسية التي استلهمت من شاعر تونس العظيم المعنى النبيل للتضحية والفداء، ولا كان يستوعب المغزى العميق لبيت شعري سيظل محفوراً في ذاكرة الشعوب. كان مهتماً فقط بتكريس زواج رأس المال مع السلطة عقدين ونيّف، ليحصد في ما بعد عواصف شعبية من الغضب العارم والسخط الجارف، تراكمت بفعل القهر، وأصبح الجوّ التونسي، تبعاً لها، يعبق بأسره برائحة الوليد القادم على مهل: "الثورة"، ثورة شعب لطالما تنزى في القيود.
لست أدري إن كان يشعر بوخز الضمير، وطائرته تغادر المجال الجوي التونسي في اتجاه المنفى البعيد. ولست أدري إن كان كذلك قائد الطائرة يشعر براحة البال، وهو يؤمّن هروباً عبر الجو "لشبح" ظل يحكم البلاد والعباد بالحديد والنار، ويسلب خيرات بلاده وأرزاق شعبه تحت جنح الظلام!
تفاصيل تلك الرحلة اللعينة لا تهمني، كما لا تعنيني أرقام الأموال المنهوبة والمودعة في البنوك، فتلك مسألة يختص بها القضاء العادل والمستقل. كل ما يهمني أن يبنى بلدي على أسس ديموقراطية سليمة، ويعيش هذا الشعب الجريح في كنف الحرية والعدالة الاجتماعية.
هذا الشعب الذي لم يطعن في كبريائه، ولم يفقد كرامته، ولم تنل منه سنوات الجمر، بقدر ما ظلّ يرتّب مواجعه إلى أن تحين لحظة الانفجار، وتهدر السيول لتجرف معها الدكتاتورية العمياء والقهر البغيض.
انفجر البركان، وسقط الديكتاتور، بعد أن قال الشعب كلمته المأثورة "ارحل"، قالها بملء الفم والعقل والقلب والدّم. قالها وهو ينزع قيوده ليستجيب القدر لندائه.
واليوم، علينا أن نترحّم على أرواح شهدائنا الأبرار، نرتّب ما بعثرته الفصول، وأفسدته السنوات العجاف، سنوات الجمر الأليمة، ونؤسس للجمهورية الثانية بإرادة فذّة، ثم ننشد ألحاناً عذبة وجميلة، إجلالاً وتقديراً للثورة.

 

avata
avata
محمد المحسن (تونس)
محمد المحسن (تونس)