في ذكرى "رابعة"

في 14 أغسطس/آب من السنة الماضية، وقعت في مصر أبشع مجزرة في تاريخ البشرية الحديث، حسبما أكدته منظمة هيومان رايتس ووتش، وسقط فيها أكثر من ألف قتيل، إضافة إلى مئات الجرحى والمعتقلين. ذلك كله حدث في ساعات قليلة من يوم واحد، في رحاب مسجد رابعة العدوية، الذي كان مسرحاً للجريمة.
وبمناسبة مرور عام على الذكرى الأليمة، أصدرت المنظمة تقريرها، بعد عام من التحقيقات، وجاء ليؤكد حجم الانتهاكات الإنسانية الخطيرة التي ارتكبها الانقلابيون ضد المعتصمين السلميين في ميدان رابعة، حيث اعتبرت أن الشرطة والجيش استخدما "بشكل ممنهج، ومتعمد، القوة المميتة المفرطة"، ما أدى إلى قتل المحتجين على نطاق واسع، وبشكل غير مسبوق، في مصر. كما يذكر التقرير أسماء المسؤولين المتورطين، واعتبرت المنظمة أن ما حصل فيها يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية، تستدعي تحقيقاً دولياً.
وقد صرح المدير التنفيذي لمنظمة هيومان رايتس ووتش، كينيث روث، أن "أحداث رابعة العدوية تمثل أكبر عملية قتل لمحتجين في يوم واحد في التاريخ المعاصر. لم نكن أمام حالة من الاستخدام المفرط للقوة، بل أمام حالة من القمع العنيف المخطط له على أعلى المستويات في الحكومة المصرية، ومسؤولون عديدون عنها مازالوا في السلطة، وعليهم الإجابة عن أسئلةٍ كثيرة".
و"هيومان رايتس ووتش" منظمة حقوقية غير حكومية، وتحظى باستقلالية وصدقية حول العالم. لذلك، جاء تقريرها بشأن محرقة رابعة ليكشف عن حجم الجريمة، ويحدد أبرز المسؤولين عن تنفيذها.
ولذلك، طالبت المنظمة بالتحقيق مع شخصيات ومسؤولين بارزين في سلطة الانقلاب، وفي مقدمتهم، وزير الدفاع السابق، عبد الفتاح السيسي، ووزير الداخلية محمد إبراهيم، باعتبارهما المسؤولين المباشرين عن اتخاذ قرار فض الاعتصام في الميدان بالقوة القاتلة. فهل سيتابع المسؤولون عن المجزرة أمام المحاكم الدولية؟
إذا كانت التقارير الصادرة عن وسائل إعلام عربية ودولية قد وثقت، بالصوت والصورة، بشاعة الجريمة التي ارتكبت في مصر، في أثناء عملية فض الاعتصام في الميدان، حيث مشاهد الجثث المحترقة داخل مسجد رابعة وحوله، فإن هذه التقارير لم تحرك ضمير ما يسمى "العالم الحر"، لكي يقوم بواجبه الأخلاقي، انسجاماً مع المبادئ والشعارات الإنسانية التي يرفعها، ويطالب المنظمات الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن، بالتحرك العاجل لإحالة تلك القضية إلى العدالة الدولية.
لذلك، من المستبعد أن تلقى مطالبة "هيومان رايتس ووتش"، في تقريرها بالتحقيق في محرقة رابعة، ومحاسبة المسؤولين عنها، لأن دولاً إقليمية ودولية داعمة للانقلاب، وفي مقدمتها كيان الاحتلال الصهيوني، ستقف في وجه أي إجراء قانوني، يمكنه أن يعرّض قادة الانقلاب، إلى الملاحقة القضائية أمام المحاكم الدولية، كما أن مصر لم تصدّق على ميثاق محكمة الجنايات الدولية، ما يجعل اختصاص المحكمة للنظر في المحرقة غير قائم.
لكن، ومع ذلك، سيظل التقرير وثيقةً قانونيةً، تدين النظام الانقلابي، وتحمله المسؤولية الجنائية والسياسية عن محرقة رابعة، يمكن اللجوء إليها مستقبلاً لتحريك دعوى قضائية ضد قادة الانقلاب، أمام محاكم دول غربية، تأخذ بنظام الاختصاص القضائي العام، أو أمام المحاكم المصرية بعد سقوط الانقلاب.
هذا بالإضافة إلى أن التقرير يرفع اللبس والغموض عن حقائق ووقائع كثيرة، وردت في شهادات الشهود، وظل نظام الانقلاب ينكرها، ويسعى إلى طمسها، حتى يبعد عنه المسؤولية المباشرة عنها.
ستبقى أحداث ميدان رابعة ذكرى أليمة في سجل التاريخين، المصري والعربي، وستشكل وصمة عار على جبين الإنسانية عامة، وجبين الدول الغربية التي سمحت للعسكر بالانقلاب على إرادة الشعب واغتصاب السلطة، وغضت الطرف عن مجازر يرتكبها منذ الانقلاب إلى يومنا هذا، من دون أن تتخذ موقفاً إنسانياً وسياسياً قوياً يتسق مع مبادئها وقيمها.