في حضرة الذكرى... (معركة حلب الثانية)

في حضرة الذكرى... (معركة حلب الثانية)

11 نوفمبر 2018
+ الخط -
آه أيها القدر.. لا تملُّ من بعث الذكريات، وكأن ألماً واحداً لا يكفي، علينا أن نعيش الألم كلما لاح ضوء في الذاكرة... لا أرغب في أن أتذكر ذلك اليوم، منذ عامين.. لقد مرّ وقت طويل بالنسبة للناجين من فوهة الموت، وجحيمه المتساقط من السماء.

أطبق الحصار علينا مرة أخرى، وأنا الذي كنت أمنّي النفس بلقاءٍ طويل مع الأهل والأصدقاء بعد أن نجحت المعركة الأولى، عليًّ الآن أن أحتمل معهم مرارة خسارتنا المعركة الثانية وقد حملتني قدماي إلى داخل حلب، حيث لا شيء سوى الحصار والحرب والموت، والكثير من الجروح والشظايا.

قضيت ثلاثة أشهر مذ جئت إلى هنا وأنا أنتظر هذه المعركة، وها هي تنتهي بلا شيء، وهم نصرٍ سريع، وخسارة أخرى بسرعة أيضاً، وتململ من القتال وسقوط في مختلف الجبهات، واجتماعات للناشطين والمقاتلين والأطباء في كل وقت علّنا نستطيع أن نتدارك أي شيء، ولكن لاشيء يمكن تداركه، كان كل شيء يُزهق عبثاً في هذه اللحظات، ولا وقت لديك إلا لدفن أحلامك التي تراودك بأن شيئاً ما سيتغير، لكي تستطيع البقاء والصبر مع هذا الأمل الذي تختلقه.

أقنعنا أنفسنا بأن الوقت الطويل الذي استهلكه العسكريون لإطلاق المعركة إنما كان من أجل إعداد كبير، فمعارك النصر في مدينة مثل حلب تحتاج استعداداً عظيماً.. نفد كل ما لدينا تقريباً، ربع مليون نسمة يقتاتون على كل ما بقي في هذه المدينة التي تآكلت أطرافها، لم يبق ما يعين على الصمود وقتاً طويلاً، كان كل يوم يجعلنا نقترب أكثر من شبح التهجير أو الموت. إضافة لبردٍ بدأ سريعاً وكأنه يريد أن ينهي ما لم تستطع الحرب إنهاءه، ولا يوجد أيّ مواد للتدفئة سوى ما يذوبه الناس من قمامة البلاستيك وأغراضهم القديمة التي يحرقونها.


كان الخذلان عظيماً، كل صور الشهداء التي أردنا أن نزين بها ساحات النصر صرنا ندفنها في مقبرة الذكريات كي لا تطل علينا معاتبة ومحاسبة، بكينا من لم نبكِهم من قبل، صرنا نشعر أن دماءهم أريقت بلا فائدة، وأن الأرض التي دافعوا عنها ستسقط عمّا قريب.

كان القتال الداخلي الذي نشب بين الفصائل جرحاً كبيراً نزف من عزيمتنا، كانت تصرفات بعض قيادات الفصائل خنجراً طعن ظهورنا لمرات حتى لم نعد نقوى على الحراك، بدأنا بتدمير قوتنا من الداخل، غدر بعضنا ببعض في ظل ظروف صعبة جداً، لقد استطاع من أراد ذلك قتل كل روح للمبادرة في داخلنا، وصرنا نخاف من أن نطعن من الخلف إذا ما قررنا أن نقاتل.

لم يكن الاستسلام سهلاً، جمع الشباب بعضهم وما استطاعوا من بقية سلاح، واستنفر الرجال صيحات كرامتهم الأخيرة وكأنها صيحات للثأر من الموت والخسارة، امتلأت الميادين من جديد، وضرب الشباب أسواراً من الأكتاف الشامخة حول آخر الأحياء التي قررت أن تقاتل، حمل بعضهم سكاكين فحسب، كان صوت العار قوياً، وكانت الأرواح رخيصة جداً أمام احتمالات الذل والمهانة، صارت المذبحة هي أسهل ما يمكن أن يحدث، ولكن القدر لم يكن ليمهلنا وقتاً كافياً للموت.

بدأنا بتجميع الشهداء والمصابين منذ اليوم الثاني للمعركة التي اخترنا أننا من سيصنعها، حملنا آخر ما تبقى لنا من الرصاص والبنادق ومضينا إلى الثغور التي تبقت لنا في هذه المدينة قبل الجسر، وخضنا معركتنا لأربعة أيام متتالية بروح الفداء الأولى، لم تستطع قوات النظام وحلفاؤه خلالها أن تتقدم خطوة واحدة.

بعد خمسة أيام من الشهداء والجرحى لم يعد لدينا من الشباب ما نستطيع به سدّ جميع الثغور، واضطررنا أن نستعين بمن غدر بنا بالأمس، علّ قسوة الهزيمة التي ستجري علينا جميعاً أن تعيد له صوابه وتصحح وجهته.

ساد الخوف يومها، لم ننم تلك الليلة، كنا نشعر أن أمراً ما سيحدث، لم نكن لنثق بخنجر ما زلنا ننزف من طعنته بالأمس.. وقبيل الساعة الثالثة ليلاً حدث ما خشيناه، لقد أُفرغت إحدى النقاط بدعوى القصف، واستطاع جيش النظام دخول المنطقة والالتفاف على كثير من الشباب المرابطين في الأمام.

كانت عيني قد غفت للحظات قبل أن أسمع الصراخ وطرق الباب بوجوب تحذير الأهالي وضرورة الانسحاب لما وراء الجسر قبل طلوع الصباح واحتدام القتال كي لا نخسر الكثير من المدنيين.

هرعنا نطرق الأبواب، ونأمر الجميع بالتوجه لما وراء الجسر (منطقة المفاوضات التي كنا نسمع عنها ولا نريد تصديقها)، وبدأ الأهالي يحزمون ما استطاعوا من الأمتعة والطعام استعداداً للنزوح الأخير، هناك حيث المذبحة الكبرى، أو التهجير في الباصات إلى خارج حلب.

استطاع الشباب المرابطون في الأمام أن ينسحبوا عبر طريق سري من المدينة القديمة، والتحقوا بأهلهم ليساعدوهم على الخروج من آخر الأحياء التي قاتلت.. أُفرغت الكلاسة وبستان القصر من جميع ساكنيها تقريباً خلال ساعات، وبدأ القصف الهمجي عليها يدمر الدمار ويعيد بعثرة الأنقاض والقبور.

بدا الفجر شاحباً جداً، لقد قطعنا الجسر وصولاً للمربع الأخير، كانت الوجوه مملوءة بالرعب والفجيعة، وكنا نحن المهزومين في آخر معركة لنا نبتسم للقدر الذي لم يترك لنا ما نخسره بعد اليوم، لقد صار القتال هو الذاكرة، وصارت الأرض كلها مقبرة فحسب.
أحمد العبسي
أحمد وديع العبسي
كاتب وصحفي سوري. مدير عام صحيفة حبر السورية. أكتب لأجل الحرية فقط وأؤمن بالثورة كأداة للتغيير. يقول: الانحياز هو الحرية المطلقة، عندما أؤمن بما أريد وأعبّر عنه بشجاعة.