في حدود النقد الماركسي للرأسمالية

في حدود النقد الماركسي للرأسمالية

19 ديسمبر 2019

تمثال ماركس حوله حمام في كالينيغراد في روسيا (Getty)

+ الخط -
يتحدّث بعضهم بكثير من القطع واليقين عن راهنية النقد الماركسي للاقتصاد الرأسمالي والمنظومة الرأسمالية، بمختلف التحولات التي لحقت أنماط تطوّرها في القرن العشرين وما تلاه. وهم يتناسون أن جهود ماركس في الفلسفة وفي الاقتصاد، وكذا في أشكال تحليله بنيات المجتمع والوعي الاجتماعي، كانت موجهةً أساساً صوب أسس وآليات بنية المجتمع الرأسمالي الناشئ في القرن التاسع عشر، في أوروبا وفي بريطانيا بالذات، حيث تشكّلت الأنوية الأولى للمجتمعات الصناعية. وإذا كنا نعرف أن التغيرات التي طرأت على بنية الرأسمالية والإنتاج الاقتصادي الرأسمالي قد أنتجت في نهاية القرن التاسع عشر الظاهرة الإمبريالية، وأنتجت في منتصف القرن الماضي ما أصبحت تعرف بالرأسمالية المتعولمة. كما ساهمت في تركيب الملامح الكبرى لما تعرف اليوم بالرأسمالية المعلوماتية، أي الرأسمالية المسنودة بثورات التواصل وأدواتها الجديدة في المجالين، الاقتصادي والمعرفي، حيث ينخرط العالم اليوم في عوالم ومؤسسات جديدة، وحيث أصبح الإنتاج الرأسمالي المُعَمَّم يرتبط ببنياتٍ جديدةٍ في العمل والإنتاج والتواصل، وهي بنياتٌ لم تكن معروفة تماماً في الزمن الذي قام فيه ماركس بتشريح ونقد الرأسمالية.
وإذا كان مؤكّدا أن النتائج التي تضمنتها كتابات ماركس الاقتصادية تستوعب كثيراً من المعطيات العامة الكاشفة لجوانب مهمة من الآليات التي تتحكَّم في بنية الإنتاج الرأسمالي، فالمؤكد أيضاً أنها كانت محكومةً بالشروط النظرية المتمثلة في نظام المعرفة المؤطر والباني لجهودها الجامعة بين التحليل التاريخي والنقد الفلسفي، إضافة إلى مجموعة من التصوُّرات المرتبطة بالطموحات والتطلعات السياسية والأخلاقية لعصره، وهي التصوُّرات التي رسمت 
الملامح الكبرى للوعي الاشتراكي في الفلسفة المعاصرة.
نتجه هنا إلى التفكير في حدود النقد الماركسي للرأسمالية، ونوجه عنايتنا أساساً نحو جهوده الهامة في تشخيص ونقد بنية الرأسمالية، وعلى الرغم من وعينا بالطابع المركَّب والمعقد للأثر النظري الماركسي، حيث يصعب الفصل في نصوصه بين الاقتصادي والاجتماعي، وبين الفلسفي والتاريخي، إضافة إلى الثورة التي ركَّبها أعماله في تاريخ الفلسفة.
لابد من التوضيح أيضاً أن الحديث هنا ليس عن الفلسفة الماركسية بإطلاق، قَدْر ما يروم إبراز حدود عملها النقدي في موضوع تفكيكها المنظومة الاقتصادية الرأسمالية، الأمر الذي يستدعي ضرورة إعادة ابتكار آلياتها في النظر النقدي، وذلك في ضوء تحوُّلات المعرفة والتقنية والتاريخ. وما حصل في بدايات القرن العشرين ومنتصفه من تطورات كبيرة في المنظومات الاقتصادية في العالم، إضافة إلى الثورات الكبرى في مجالي العلوم الإنسانية والاجتماعية، تبرز بجلاء محدودية النقد الماركسي.
وعلى الرغم مما يمكن أن يقال في هذا السياق عن مضمرات الحدوس والتصوُّرات الماركسية التي عمل بعض الفلاسفة طوال القرن العشرين على اكتشافها وإعادة تركيب مفاصلها النظرية، فإنه ينبغي أن لا نُغْفِل أن ماركس يؤكّد على أهمية النسبية والتنسيب في كل من المعرفة والتاريخ، ويُبرز، في الآن نفسه، مزايا التطلعات والطموحات التاريخية الهادفة إلى بناء
 مجتمعاتٍ أكثر إنسانية وأكثر عدلاً. إضافة إلى ذلك، نحن نُدرج، في العادة، جهود الذين حاولوا تطوير المنظومة الفلسفية لماركس ضمن صور التفاعل التي يمكن أن تعرفها المنظومات الفلسفية في التاريخ. وقد ارتبطت هذه الجهود بخياراتٍ أخرى في تاريخ الفلسفة وتاريخ الممارسة السياسية في القرن العشرين.
الحديث هنا عن الحدود لوعينا بأن الأفكار ترتبط بأسئلة زمانها وشروطه، وأن منطقها يتأسّس في ضوء المعطيات التاريخية المؤطرة لوجودها. والفلسفة الماركسية كما تبلورت في النصوص التي أنتج ماركس لا تخرج عن الروح العامة لهذا المبدأ، بكل ما تحمل من مواقف وخيارات وحدوس وأسئلة.. وهي مفتوحةٌ، في الآن نفسه، على دوائر من التأويل تتسع وتضيق، حسب مواقفنا المعرفية والمنهجية من الإرث النظري الماركسي.
نفترض أن حدود النصوص الفلسفية وحدود الفكر والوعي تندرج بدورها ضمن مكاسب الآثار الماركسية، فقد ساهمت جهود ماركس الفلسفية والمنهجية، كما ساهم الحس العياني والمرجعية 
التاريخية التي استند إليها عند تحليله ونقده الظواهر والمفاهيم والفلسفات، في كشف دور الشروط المؤطّرة لها والمواكبة عمليات إنشائها، في تعيين جوانب من السقف الذي يصنع لها الحدود كما يصنع لها الآفاق.
لا ينبغي إغفال أهمية التأويلات الهادفة إلى تطوير وإعادة تكييف المنتوج النصّي والمفاهيمي لماركس في سياقاتٍ أخرى من التاريخ، حيث نجد في فلسفات القرن العشرين في مجتمعاتٍ وثقافاتٍ عديدة في الشرق والغرب محاولاتٍ مبدعة في إعادة بناء مفاهيم ماركس، أو في المساعي التي تتوخّى بناء بعض بدائلها في ضوء تحولات التاريخ والمعرفة ومستجدّاتهما، إلا أن هذه الجهود تُحْسَب لأصحابها. ونحن نفكر في حدود النقد الماركسي للرأسمالية، يحق لنا أن نتساءل هل ما زالت مفاهيم ماركس وأحكامه في موضوع رأس المال والرأسمالية تَمْلِك جدارةً نظريةً أمام مختلف التحولات التي عرفها ويعرفها النظام الاقتصادي الرأسمالي المعلوماتي المتعولم، بآلياته التقنية الجديدة المرتبطة بمجتمع المعرفة واقتصادياتها، وما ولَّدَتْه من معطيات جديدة في عوالم المال والأعمال في حركتها العابرة للقارات؟
C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".