في جدلية التجديد بين الدين والسياسة

في جدلية التجديد بين الدين والسياسة

10 فبراير 2020

(محمد العامري)

+ الخط -
حظي النقاش الذي دار بين شيخ الأزهر، أحمد الطيّب، ورئيس جامعة القاهرة، محمد عثمان الخشت، في مؤتمر الأزهر العالمي لتجديد الفِكر والعلوم الإسلامية باهتمام كبير، وأثار عاصفةً من ردود الأفعال في الفضاءيْن، الإعلامي والافتراضي. وأعاد فتح الجدل بشأن قضية تجديد الخطاب الديني، وصل إلى حدّ التراشق بين منحاز لهذا الطرف أو ذاك، وقد كان التركيز الأكبر على ردّ شيخ الأزهر ودفاعه عن التراث، ما أتاح فرصة عودة ظهور أصوات "تنويرية" قديمة ما فتئت تتهم الأزهر بأنّه معقل الجمود، والرجعية، بل والتطرّف (!). 
حتى يكون النقاش مستوفياً الحدّ الأدنى، ينبغي تحرير المصطلح، حيث إن التجديد مصطلح تراثي في الأصل، يستمدّ مشروعيته من الحديث الشريف الصحيح "إِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا"، بيْد أن المصطلح تنازعته تيارات فكرية، وثقافية مختلفة المشارب، ما حمّله بنوازع سياسية، وأيديولوجية جعلت منه مصطلحاً واسعاً فضفاضاً، يحمل دلالاتٍ عديدة، وفقاً للسياق الزماني، والمكاني، والتاريخي.
في مطلع القرن العشرين، ظهرت المدرسة التجديدية الحضارية، أو "الإسلام الحضاري" التي أسّسها محمد عبده، وامتداداتها اللاحقة، مثل رشيد رضا ومالك بن نبي. وقد ارتكزت رؤية هذه المدرسة على أن مشكلة العالم الإسلامي فكرية – حضارية، في المقام الأول، قبل أن تكون 
سياسية، فالتخلّف السياسي هو عَرَض لمرض التخلّف الحضاري، المتمثّل في انتشار الأمية، والتخلّف العلمي، والمفاهيم الدينية الخاطئة، والخرافات والخزعبلات، إلى جانب سيادة التقليد وغياب التجديد عن التراث الفقهي، فالإصلاح يبدأ من أسفل إلى أعلى، بضرورة العمل على آفات المجتمع وبتقديم الإصلاح الديني والفكري والاجتماعي على الإصلاح السياسي. ومثّلت المدرسة محاولة لـ"الإحياء الحضاري" للأمّة، وانصبّ جهدها على رتق "الفتوق الحضارية" في جسد المجتمع، والتي جعلته "قابلاً للاستعمار"، حسب تعبير مالك بن نبي.
بُعيْد أحداث "11 سبتمبر" في العام 2001، تقدّم مصطلح تجديد الخطاب الديني إلى الواجهة، ولكن هذه المرّة من الغرب، فقد ترتّبت آثار كبيرة على الحدث الخطير، ومنحت فرصة ذهبية للمتطرّفين كي يتصدّروا المشهد الفكري والثقافي والسياسي، حيث كتب المستشرق الداهية الصهيوني المتطرّف، برنارد لويس (يُعدّ الأبّ الروحي والمرجعية الفكرية الرئيسية لتيار المحافظين الجّدد الذي احتلّ المسرح إبّان حقبة جورج بوش الابن) مقالاً في صحيفة "النيويوركر" الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001، مثّل نواة لكتابه الذي صدر في 2003 "أزمة الإسلام.. الحرب الأقدس والإرهاب المدّنس". ورأى لويس أن أزمة الإسلام بنيوية ذاتية، بسبب بنية منظومته الحضارية، المناقضة لقيم الحداثة الغربية، وأن الصدام بين المسيحية والإسلام حتمي وأبدي، بسبب رفض الثاني منظومة القيم الغربية، وأن العالم الإسلامي غارقٌ في مشكلاته المتفاقمة الراجعة إلى أسباب ذاتية متعلّقة بالدين والثقافة، بيْد أن لويس لم يضع المسلمين كلّهم في سلّة واحدة، بل حرص على التمييز بين المسلمين العاديين، والأصوليين، والإرهابيين، حسب تقسيمه، وأن الخطر يكمن في من سمّاهم أتباع 
"الأصولية الإسلامية" المؤسِّسة لأفكار الراديكالية الإسلامية المقاتلة، الذين يرون مشكلة العالم الإسلامي ليست في عدم كفاية التحديث، بل في الإفراط في التحديث، والإذعان الكامل للتأثير الحداثي الغربي الذي يعدّونه خيانةً للقيم الإسلامية الأصيلة.
على الفور، تلقّفها حواريّو لويس وتلاميذه، وشرعوا في العزف على الطنبور نفسه، إذ شهد الفضاء الإعلامي رواجاً كبيراً للحديث عن ضرورة تجفيف المنابع الفكرية المؤججّة للكراهية، والمؤدّية إلى الإرهاب عبر "لبرلة الإسلام"، بالقيام بعملية تحديث شاملة له، ليتقبّل القيم الغربية، الداعية إلى التسامح الديني، فقد سكّ بول وولفويتز مصطلح "حرب الأفكار والعقول"، وقال "معركتنا هي معركة الأفكار ومعركة العقول، ولكي نكسب الحرب على الإرهاب، لا بدّ من الانتصار في ساحة الحرب على الأفكار". ثمّ قال: "علينا أن نعمل ما في وسعنا لتشجيع أصوات المسلمين المعتدلين". أمّا فرانسيس فوكوياما فقال في حوارٍ مع مجلّة "وجهات نظر" في مارس/ آذار 2002: "أرى أن التوفيق ممكن بين الإسلام كدين والحداثة، فالإسلام يمثّل ديناً ونظاماً ثقافياً معقّداً للغاية، وقد أثبت قدرته على التوافق مع الحداثة في عدد كبير من المجتمعات والأفراد، ولا أرى سبباً يمنع من وجود شكل حديث للإسلام".
بعد ذلك تحوّلت تلك الدعاوى إلى مطالب وإملاءات أميركية صريحة، من أجل تغيير المناهج 
التعليمية في العالميْن، العربي والإسلامي، خصوصا المناهج الدينية، وتبنّي تفسيرات "عصرية" للقرآن والسنّة، من أجل حذف كلّ ما يدعو إلى الكراهية، وفقاً للمنظور الأميركي، مثل الجهاد. ورأى العلمانيون المتطرّفون (من ذوي الثارات الأيديولوجية مع كلّ ما هو إسلامي) ضرورة اهتبال الفرصة، فركبوا الموجة، ورددّوا المطالب الأميركية نفسها، وشنّوا حملات ممنهجة، ونظّموا مؤتمرات وندوات عديدة اتخذّت من "تجديد الخطاب الديني" عنواناً لها، شهدت هجوماً ضارياً على التراث والأزهر ومناهجه وشيوخه ورموزه فضلاً عن جماعات الإسلام الحركي بشقيْها السلمي والعنيف، فماذا كانت المآلات؟
أتت تلك الحملة العاتية بنقيض مقصدها، وارتدّت في الاتجاه المضادّ، فبعد الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، انتشر الفِكر المتطرّف ولم ينحسر، وضرب الدول الغربية قبل العربية. أمّا الأدهى فهو تعرّض المجال الديني لحملة "سلفنة" واسعة، بعدما تصدّر المتنطّعون المتسلّفون واجهة المشهد، وصعد نجمهم بصورة سريعة، حيث مثّلت الأطروحة السلفية معادلاً هوياتيّاً لحملة المحافظين الجدد، بهدف تأكيد الذات الحضارية والدفاع عن الهويّة، عبر الدعوة إلى التمسّك الشديد بالشكليات الدينية والإغراق فيها، والإلحاح على القضايا العَقَدية قبل الشرعية، فضلاً عن انتشار فتاوى كارثية، خاصمت روح الاعتدال، وجنحت نحو التنطّع والتشدّد. وما كان ذلك بالأمر العجيب، فإنّ التطرّف يستدعي تطرّفاً مضادّاً. وفي مناخ التوتر والاحتقان، تغيب أصوات العقل والاعتدال، وتبدو في أعين الناس أقرب إلى التميّع والتفريط.
بعد الربيع العربي وموجاته المتعاقبة من مدّه ثمّ جزره، والتي شهدت صعود الإسلاميين ثمّ أفول نجمهم، لأسباب عديدة، تخلّلها نشوب استقطاب حادّ بين الإسلاميين والعلمانيين، كانت محصّلتها حالة من الانكشاف المعرفي والأخلاقي للكيانات التقليدية القديمة من جماعات الإسلام الحركي وتنظيماته، وإشهار إفلاسها الفكري من جهة، ثمّ ظهور السردية الداعشية من جهة أخرى. وهنا تجدّد الحديث عن ضرورة تجديد الخطاب الديني، وهذا يستحقّ حديثاً آخرَ.

دلالات