في ثقافة الاستنساخ الفكري

في ثقافة الاستنساخ الفكري

12 يونيو 2017
+ الخط -
يقول علماء التطور: تكاثر باستنساخ نفسك، تصل مبكراً إلى الفناء. وتقول تجارب علمية حديثة: إن استنساخ كائن جديد من نفسه يؤدي إلى خلق سلالات أضعف بكثير من الكائن الأساسي المستنسخ منه. وهذا الاستنتاج هو الذي جعل أحد أنواع اللقاحات يستخدم جراثيم مخفّفة الفوعة، أي جراثيم ضعيفة واهنة، تحدث الأضداد في الجسم، لكنها لا تحدث المرض. فمفهوم الاستنساخ، بحد ذاته، يعيدنا إلى بدايات تشكّل الحياة على الأرض، ويمحو ملايين السنوات من التطور البيولوجي الدارويني الذي يحاول دائما إنتاج الأفضل، والقادر على الاستمرار. لذا، لاقى "الاستنساخ العضوي للنعجة دولي، رفضاً من علماء البيئة، مبرّرين رفضهم هذا بالكوارث البيولوجية التي ستظهر في حال استعانت البشرية به عن التلاقح الطبيعي الذي وحده يحمل القدرة على إنتاج كائناتٍ متطورة وقادرة على مواكبة الحياة.
وقد خلص الباحث الإسباني في علم الاجتماع، خوان سانشي، إلى أن المجتمع البشري بكل عناصره يعيد إنتاج القوانين البيولوجية نفسها التي تحكم الكائنات الحية، إذ اعتبر أن الاستنساخ الفكري، السياسي والثقافي، ثقافة خطيرة بدرجة خطورة الاستنساخ العضوي نفسها، فهي أيضا، ستنتج دائما، منظوماتٍ فكرية تالفة وهشّة، أي أنها عملية تدمر بها الثقافة نفسها بنفسها، وتعود بالمجتمع المعرفي البشري إلى بدايته، لاغيةً كل إمكانات التقدّم، أو حتى إمكانية البقاء على حاله.
الاستنساخ الفكري أو المعرفي عملية، في طبيعتها التكوينية، معاكسة تماماً لعملية الإبداع، أو يمكن القول إن الإبداع الحقيقي هو نقيض للاستنساخ. فسواء أكان الاستنساخ، بمفهومه الحرفي كما ورد في القاموس، أو كان استنساخا لأحد مكونات الثقافة، فهو إعادة إنتاج وتكرير، سينتج عنه ثقافة هرمة ومريضة، وغير قادرة على فعل المقاومة والتحدّي، وبالتالي غير قادرة على إعادة إنتاج ثقافة الحياة.
حاول الباحثون البيولوجيون والمسؤولون البيئيون، وضع ضوابط أخلاقية وقانونية لإعاقة استمرار عمليات الاستنساخ العضوي، وحصر استخدامه في الضرورات الطبية الخاصة جدا. في المقابل، لم يستطع أحد أن يضع ضوابط على ما هو أخطر من الاستنساخ العضوي، وساد لدى الشعوب المهزومة مفهوم الاستنساخ الثقافي الذي لا يقدم لها سوى مزيد من الانهزام.

اليوم، وبعد ست سنوات من حرب استنسخت فينا، نحن السوريين، ثقافة الموت، نحسّ بأن ذواتنا خسرت معظم مركبات تكوينها الثقافي، ولعل أهمها المركب الذي كان يجعل منها ذاتًا خلاقة، مبدعة، مؤثرة، ومتأثرة بكل ما حولها، مجدّدة في كل ما تنتج.
وبحسب مقارنة خوان سانشي، لا تلبث الذات التي تخسر مكوناتها الثقافية تبحث عن بدائل أخرى، لتملأ فراغاتها. لذا فهي تهرب مباشرةً، إما إلى استنساخ ثقافاتٍ أخرى جاهزة، أو إلى تكرير التجارب المعلّبة الوافدة عليها من مواقع مختلفة بغرض التعويض، أو أنها تقوم بالعملية الأخطر، أي أنها تقوم بعملية استنساخ نفسها من نفسها، من دون أية عمليات تلقيح تحمل مورثات ثقافية هرمة متآكلة.
اليوم، لم نعد نملك، نحن السوريين، إلا مفهوم الاستنساخ الثقافي لمحاولات بائسة لملء ملامح هويتنا الثقافية، إذ سلبنا هذا العالم المزيف كل طاقة للإبداع، مثلما سلبنا حقنا في الحياة. وبالتالي، نحن بكل ما نعيشه، وما ننتجه من جوانب فكرية حياتية، بعد كل هذا الانهزام الذي صنعه فينا خذلان العالم الممنهج لنا، وبعد قتل العالم كله لنا، نتجه، وبكل جدارة، إلى قتل أنفسنا بأنفسنا عن طريق استنساخ الثقافة الدينية، والطائفية، والسلفية. ولعل المنتج الدرامي السوري الذي تمتلئ به الفضائيات العربية في رمضان الحالي، والذي كان في السنوات العشر الأخيرة قبل الحرب، يمثل أفضل منتج درامي عربي بكل ما حمله من إبداع وقدرة على مقاومة الإشكالات الحياتية والفكرية للإنسان العربي ومواجهتها، تحوّل اليوم إلى منتج يعرض فشله الفكري، وضحالته الوجدانية والحسية، مثلما يعرض انهزامه الإبداعي الحقيقي العميق، وفقده كل دهشة أو كل تحليل جاد، وهروبه من مواجهة الواقع السوري الكارثي، إما باستنساخ مراحل تاريخية قديمة وإعادة إنتاج دراما باهتة مشوهة عن تلك المراحل التي أشبعت استنساخا، أو باستنساخ مقيتٍ لأعمال تعيد إنتاج مفهوم الزعيم القائد العقيد، مثل عمل باب الحارة الذي أقفل على أرواحنا كل الأبواب، باستنساخه نفسه إلى عشرة أجيال، وكل جيل ينجب شكلا أسوأ من قبله، هو أكبر دليل على حالة الاستنساخ الثقافي القاتلة التي أوصلنا إليها هذا العالم الذي يدّعي التطور الحضاري، والذي يمضي، بكل منتجه المعرفي، إلى استنساخ ثقافة "الهروب إلى الهاوية".
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير