26 سبتمبر 2024
في تركيب روحانيّات الحداثة
تترتّب على التداعيات المتواصلة في أغلب المجتمعات العربية، بعد انفجارات 2011، تحولات تستدعي كثيراً من المواجهة والحسم، ويتعلق الأمر بتحولاتٍ في الفكر والسياسة والمجتمع. وسنوجه عنايتنا في هذه المقالة إلى التفكير في كيفيات كسر سقف الأحكام المهيمنة، والصانعة سقف معارك كثيرة، تواصل صُنْعَ استقطابات سياسية حادة. وسنوجه اهتمامنا فيها نحو مفهوم الروحانية، وذلك بربطه بالأفق الحداثي، بدل ربطه المعتاد بتيارات الإسلام السياسي وأجنحته العديدة.
نتصور أن الحداثة مشروع في الفكر وفي الحياة، مُنفتحٍ ومفتوحٍ ومعادٍ للدوغمائيات، صحيح أن تجليات كثيرة لهذا المشروع حوَّلت الحداثة في أذهان بعضهم إلى عقيدة، إلا أن الأمر، كما نفهمه، يشير إلى أن الأساس في الرؤية الفلسفية الحداثية يتمثل في طابعها المفتوح، وغير المكتمل.
يمكن تشخيص هذه المسألة، اعتماداً على مقدمة نرى فيها أن الحداثة أُفُق في العمل والنظر، "يهم تدبير ورطة"، بل مخاطرة الإنسان في الوجود، والمجتمع والتاريخ. لكن، مَن ينكر منّا مُتْعَةَ المخاطرة، ليس في اللعب بمختلف أشكاله، بل في الحياة أيضاً؟ وهذا الأمر، في نظرنا، اختيار واعٍ ومسؤول، في حدود الطاقة الإنسانية الموسومة بتاريخيتها.
وهناك أمر آخر تستوعبه المقدمة المذكورة، ونتعلّمه من العقائد، وهو متداول ومحفوظ، حيث يتم التنصيص في مختلف العقائد على البداية والنهاية والخلود، وكل المرويات المعروفة في كلاسيكيات العقائد تقول بذلك، ولا تتجاوز الاختلافات بينها بعض الجزئيات. ولا أقصد بالعقائد منتوج القرون الوسطى، بل أضيف إليه التي سبقتها من عقائد الفكر القديم، المُعبَّر عنها في الأساطير ومَحْكيات الشعوب القديمة، المحفوظة في الرسوم والمروية في الآداب والأمثال.
فتحت الحداثة أمامنا أفقاً آخر في الاختيار والنظر، حيث الحياة مخاطرة، وحيث يشكل الرضا بالمخاطرة نوعاً آخر من الاختيار نحن صانعوه، ومُرَتّبو سَرِدِياته ومفاهيمه الجديدة، في ضوء تحولات الفكر والتاريخ، كما تجري في واقعنا.
لكن، كيف يمكن أن نفكر في الروحانيات من دون أن نقطع مع مشروع الحداثة في انفتاحه وثرائه، وفي الورطة التي رَكَّبَ في حياتنا؟ كيف يمكن أن نفكر في وصل الحداثة بالبعد الروحي، من دون أن يشير الروحي إلى معطيات المذاهب الدينية ومكاسب الفلسفات المثالية؟ أفترض أن هذا الأمر ممكن، وهو يتيح تقليص حدود القطع في الدوغمائيات اللاهوتية، والقطعيات الحداثية، ذلك أن الخلل النظري في الحالتين معاً، يتمثّل في استكانة الطرفين لمنطق في النظر، آن أوان زحزحته.
يمكننا أن نقوم بذلك، شريطة أن نعيد النظر في محتوى المفاهيم، أي نتجه إلى زحزحة الدلالات التي استقرت، ونفكر في تركيب بدائلها في ضوء ما نروم بلوغه من أهداف، فالمعاني التي نضع للكلمات قابلةٌ للتطوير والتحويل، بل وقابلةٌ لإعادة التكوين، شريطة الالتزام بمقتضيات النظر ومتطلبات الزمن المساعد في عمليات تنويع وتطوير الدلالة، ومنحها المعنى الجديد الملائم لتصوراتنا ومواقفنا.
وإذا كنا نسلّم بأن فكر الأنوار داخل المشروع الحداثي لا يمتلك تصورات دقيقة وواضحة في مسألة الموقف من الدين والعقائد، وأن أدبيات كثيرة مرتبطة بهذا الفكر تستوعب تصورات مبسطة وميكانيكية في موضوع تجاوز التصورات الدينية، وأن النصوص الراديكالية في فكر الأنوار ركَّبَت تصوراتٍ قطعيةً مماثلة في منطقها للتصورات اللاهوتية، حيث ظل منطق الخلاص متحكّماً في الرؤيتين، سواء اتخذ صفة الهرطقة المُعلَنة، أو رَكَنَ إلى مسلّمات العقائد النصيّة الآمرة والمغلقة.
مقابل ذلك كله، نحن نعتبر أن ما هو قوي في نصوص كتاب عصر الأنوار يتمثّل في مواقفهم النقدية، من أدبيات الكنيسة وصكوكها. وإذا كنا نسلّم بكل ما سبق، أدركنا الخلط الشائع في الأحكام المتداولة في هذا الباب، حيث نكتشف أن الأحكام الشائعة لا تُعْنَى بالتفكير مجدداً في المفاهيم ودلالاتها، وذلك في ضوء التحولات والمكاسب الجديدة التي ما فتئت تركبها الفلسفة المعاصرة، وتركبها جهود الإبداع القائم على مبدأ المخاطرة في الوجود بكل المتع التي يتيحها، والإشكالات التي تنشأ في قلبه، ويعمل على تجاوزها.
يترتب على العناصر التي ذكرنا أن تصورنا للروحاني لا يكافئ بالضرورة الدين، وحتى عندما يكافئه في سِجِلٍ معرفي محدد، فإنه لا يستأثر به. ذلك أن للمفاهيم حياة تتجاوز عتباتها شبه القارة في منظومات وفلسفات بعينها، إنها تنفتح على ممكنات أخرى، أرحبَ في سِجلاَت معرفيةٍ أخرى، وسياقات تاريخية أخرى.
كما أن الروحاني لا يطابق دائماً الأخروي، وقد يكافئ، في مستويات أخرى من النظر الأخلاقي، كما يطابق أحياناً الجمالي، ويكون موصولاً في سياقات أخرى بالساحر والعجيب. وفي مختلف هذه الدلالات، نكون قد كسَّرنا المفهوم الوَتَن، ورَكَبْنَا درب إعادة تركيب محتواه، في ضوء أسئلتنا الجديدة وتصوراتنا المستجدة.
لا يمكن أن نتصور أنه يمكننا فقط أن ننظر إلى الروحاني، من زاوية معطيات العقائد المحفوظة، والمعروفة، والمتداولة في الطقوس والعبادات، كما رسمتها العقائد، وركبت ملامحها في دائرة العلاقة التراتبية، المفترضة بين الله والعالم والإنسان. يمكن أن نفكر في معطيات أخرى، تقرّبنا من أجواء الروحانيات، بكل خصوبتها وثرائها ومآثرها، مثلما يمكننا أن ننعم بالمكاسب المادية، وبكل الفتوحات التي راكمت في التاريخ، وفي المجتمع، وفي مجال التقنيات. فعندما نفكر، مثلاً، في موضوع الجمال وفي الموضوعات الأخلاقية، يمكننا أن نعيد بناء الروحانية، لتصبح مفهوماً دهرياً وعلمانياً، موصولاً بأخلاق الحداثة، ذلك أننا نعي جيداً أن الورع الروحي ليس طهرانياً دائماً، وليس زهدياً دائماً، فالورع الروحي لا يتضمن بالضرورة الزهد عن الماديات، إلا في الأذهان التي تختزل المفاهيم، وتربطها بتصورات ثابتة ومغلقة.
نتصور أن الحداثة مشروع في الفكر وفي الحياة، مُنفتحٍ ومفتوحٍ ومعادٍ للدوغمائيات، صحيح أن تجليات كثيرة لهذا المشروع حوَّلت الحداثة في أذهان بعضهم إلى عقيدة، إلا أن الأمر، كما نفهمه، يشير إلى أن الأساس في الرؤية الفلسفية الحداثية يتمثل في طابعها المفتوح، وغير المكتمل.
يمكن تشخيص هذه المسألة، اعتماداً على مقدمة نرى فيها أن الحداثة أُفُق في العمل والنظر، "يهم تدبير ورطة"، بل مخاطرة الإنسان في الوجود، والمجتمع والتاريخ. لكن، مَن ينكر منّا مُتْعَةَ المخاطرة، ليس في اللعب بمختلف أشكاله، بل في الحياة أيضاً؟ وهذا الأمر، في نظرنا، اختيار واعٍ ومسؤول، في حدود الطاقة الإنسانية الموسومة بتاريخيتها.
وهناك أمر آخر تستوعبه المقدمة المذكورة، ونتعلّمه من العقائد، وهو متداول ومحفوظ، حيث يتم التنصيص في مختلف العقائد على البداية والنهاية والخلود، وكل المرويات المعروفة في كلاسيكيات العقائد تقول بذلك، ولا تتجاوز الاختلافات بينها بعض الجزئيات. ولا أقصد بالعقائد منتوج القرون الوسطى، بل أضيف إليه التي سبقتها من عقائد الفكر القديم، المُعبَّر عنها في الأساطير ومَحْكيات الشعوب القديمة، المحفوظة في الرسوم والمروية في الآداب والأمثال.
فتحت الحداثة أمامنا أفقاً آخر في الاختيار والنظر، حيث الحياة مخاطرة، وحيث يشكل الرضا بالمخاطرة نوعاً آخر من الاختيار نحن صانعوه، ومُرَتّبو سَرِدِياته ومفاهيمه الجديدة، في ضوء تحولات الفكر والتاريخ، كما تجري في واقعنا.
لكن، كيف يمكن أن نفكر في الروحانيات من دون أن نقطع مع مشروع الحداثة في انفتاحه وثرائه، وفي الورطة التي رَكَّبَ في حياتنا؟ كيف يمكن أن نفكر في وصل الحداثة بالبعد الروحي، من دون أن يشير الروحي إلى معطيات المذاهب الدينية ومكاسب الفلسفات المثالية؟ أفترض أن هذا الأمر ممكن، وهو يتيح تقليص حدود القطع في الدوغمائيات اللاهوتية، والقطعيات الحداثية، ذلك أن الخلل النظري في الحالتين معاً، يتمثّل في استكانة الطرفين لمنطق في النظر، آن أوان زحزحته.
يمكننا أن نقوم بذلك، شريطة أن نعيد النظر في محتوى المفاهيم، أي نتجه إلى زحزحة الدلالات التي استقرت، ونفكر في تركيب بدائلها في ضوء ما نروم بلوغه من أهداف، فالمعاني التي نضع للكلمات قابلةٌ للتطوير والتحويل، بل وقابلةٌ لإعادة التكوين، شريطة الالتزام بمقتضيات النظر ومتطلبات الزمن المساعد في عمليات تنويع وتطوير الدلالة، ومنحها المعنى الجديد الملائم لتصوراتنا ومواقفنا.
وإذا كنا نسلّم بأن فكر الأنوار داخل المشروع الحداثي لا يمتلك تصورات دقيقة وواضحة في مسألة الموقف من الدين والعقائد، وأن أدبيات كثيرة مرتبطة بهذا الفكر تستوعب تصورات مبسطة وميكانيكية في موضوع تجاوز التصورات الدينية، وأن النصوص الراديكالية في فكر الأنوار ركَّبَت تصوراتٍ قطعيةً مماثلة في منطقها للتصورات اللاهوتية، حيث ظل منطق الخلاص متحكّماً في الرؤيتين، سواء اتخذ صفة الهرطقة المُعلَنة، أو رَكَنَ إلى مسلّمات العقائد النصيّة الآمرة والمغلقة.
مقابل ذلك كله، نحن نعتبر أن ما هو قوي في نصوص كتاب عصر الأنوار يتمثّل في مواقفهم النقدية، من أدبيات الكنيسة وصكوكها. وإذا كنا نسلّم بكل ما سبق، أدركنا الخلط الشائع في الأحكام المتداولة في هذا الباب، حيث نكتشف أن الأحكام الشائعة لا تُعْنَى بالتفكير مجدداً في المفاهيم ودلالاتها، وذلك في ضوء التحولات والمكاسب الجديدة التي ما فتئت تركبها الفلسفة المعاصرة، وتركبها جهود الإبداع القائم على مبدأ المخاطرة في الوجود بكل المتع التي يتيحها، والإشكالات التي تنشأ في قلبه، ويعمل على تجاوزها.
يترتب على العناصر التي ذكرنا أن تصورنا للروحاني لا يكافئ بالضرورة الدين، وحتى عندما يكافئه في سِجِلٍ معرفي محدد، فإنه لا يستأثر به. ذلك أن للمفاهيم حياة تتجاوز عتباتها شبه القارة في منظومات وفلسفات بعينها، إنها تنفتح على ممكنات أخرى، أرحبَ في سِجلاَت معرفيةٍ أخرى، وسياقات تاريخية أخرى.
كما أن الروحاني لا يطابق دائماً الأخروي، وقد يكافئ، في مستويات أخرى من النظر الأخلاقي، كما يطابق أحياناً الجمالي، ويكون موصولاً في سياقات أخرى بالساحر والعجيب. وفي مختلف هذه الدلالات، نكون قد كسَّرنا المفهوم الوَتَن، ورَكَبْنَا درب إعادة تركيب محتواه، في ضوء أسئلتنا الجديدة وتصوراتنا المستجدة.
لا يمكن أن نتصور أنه يمكننا فقط أن ننظر إلى الروحاني، من زاوية معطيات العقائد المحفوظة، والمعروفة، والمتداولة في الطقوس والعبادات، كما رسمتها العقائد، وركبت ملامحها في دائرة العلاقة التراتبية، المفترضة بين الله والعالم والإنسان. يمكن أن نفكر في معطيات أخرى، تقرّبنا من أجواء الروحانيات، بكل خصوبتها وثرائها ومآثرها، مثلما يمكننا أن ننعم بالمكاسب المادية، وبكل الفتوحات التي راكمت في التاريخ، وفي المجتمع، وفي مجال التقنيات. فعندما نفكر، مثلاً، في موضوع الجمال وفي الموضوعات الأخلاقية، يمكننا أن نعيد بناء الروحانية، لتصبح مفهوماً دهرياً وعلمانياً، موصولاً بأخلاق الحداثة، ذلك أننا نعي جيداً أن الورع الروحي ليس طهرانياً دائماً، وليس زهدياً دائماً، فالورع الروحي لا يتضمن بالضرورة الزهد عن الماديات، إلا في الأذهان التي تختزل المفاهيم، وتربطها بتصورات ثابتة ومغلقة.