في تبعات الاغتيال على كُردستان العراق

في تبعات الاغتيال على كُردستان العراق

12 يناير 2020
+ الخط -
القنصلية الأميركية في أربيل، وقاعدة عين الأسد في الأنبار، هدفٌ للتفوق الإيراني العسكري. هكذا لاكت ألسن إيرانية، شعبية وإعلامية، ومن الطبقة السياسية الرسمية، أشاعت، بداية، قتل أعداد كبيرة من الجنود، ورُبما قيادات أميركية في الموقعين. قبل أن ينكشف خواء هذا الكلام. ولأميركا قواعد ومصالح حيوية أكثر أهمية من القنصلية في أربيل، إلا أن رسائل متشابكة وراء اختيار كُردستان العراق تحديداً لمثل هذا الفعل. أولها: رغبة إيران بتهديد الإقليم؛ لعدم تبنّيه موقف الكُتلة الشيعية في البرلمان العراقي. فقبل هجوم أنصار الحشد الشعبي على السفارة الأميركية في بغداد، كانت المساعي الشيعية تتجه صوب دفع البرلمان العراقي إلى إصدار قرار إخراج القوات الأجنبية من العراق، قابله رفض كردي بالمطلق، ورفض الكتلة النيابية الكُردية مقترح إلغاء معاهدة الدفاع المشترك؛ لأن الهدف كان نزع شرعية الوجود الأميركي في العراق، وسيعني ذلك كشف ظهر الإقليم، والوقوف مع الكُتل المذهبية في البرلمان العراقي، ما سيُفضي بالإقليم صوب الهاوية إلى مخاطر الاصطفاف الجديد، والعداء مع أميركا، وخصوصا أن المصالح الأميركية تلتقي حالياً، أكثر من أيَّ وقتٍ مضى، مع مصالح الإقليم. تجلى ذلك بوضوح عبر تعاكس موقف نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، الذي حمل رسالة إلى رئيس الحكومة العراقية قائلاً "نحن شركاء الديمقراطية وللشعب العراقي"، في حين حمل رسالة الرئيس ترامب إلى رئاسة إقليم كُردستان "ندعم قيادتكم إقليم كُردستان، والعلاقات طويلة الأمد بين الشعبين، الكُردي والأميركي، ودحر داعش بفضل قوات البشمركة"، وهي الرسالة التي تلقتها الأوساط السياسية الكُردية والشيعية بنفس واحد، انحصر حول بداية تغيير السياسة الأميركية في المنطقة، وفقدان الثقة بالزعامات الشيعية، لحساب زيادة منسوب الثقة بالكُرد، وتالياً السنّة أيضاً.
وثانيتها: تنبيه أربيل تحديداً من أن بقاء الإقليم على الحياد بهذا الشكل سيكلفها الكثير، خصوصا 
لما لإيران من أوراق ضغط داخل الإقليم، وهو ما اتضح من خلال تلفيق وسائل إعلامية إيرانية خبر شُكر وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، رئيس وزراء إقليم كُردستان العراق، مسرور البارزاني، وتلفيق كذبة مشاركة الإقليم في عملية الاغتيال. وثالثتها: أن النيران التي ستندلع في العمق الإيراني ستصل بمداها إلى الجوار، وتحديداً الكُردي والسنّي. أما رابعتها فهي للعمق الكُردي في إيران، وتنبيههم إلى عدم الإتيان بأي أنشطة تستغل الوضع الحالي.
تدرك إيران جيداً حجم الاحتياطات التي تتخذها القنصلية الأميركية في أربيل، بعد واقعة سفارتها في بغداد، فقبل سنوات قليلة، لم تكدّ تمضي فترة على تقديم إقليم كردستان العراق الشكر لإيران، لتقديمها المساعدة في محاربة "داعش" إبّان هجومها على أربيل. ولكن رفض رئيس إقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، تأجيل الاستفتاء أو إلغائه، دفع طهران إلى التدخل ثانية، عبر أدوات وضواغط محلية متنوعة، لمنع الإقليم من إتمام مشروع الاستفتاء، ومع فشل جميع ضغوطها، إلا إنها كانت صاحبة اليد الطولى في واقعة كركوك، عبر قاسم سليماني نفسه. وهي الهدية التي ستطالب إيران بردّها، أو التلويح بمقدرتها على إحداث قلاقل داخل الإقليم.
رُبما يُمكن القول إن الإقليم خرج قليلاً من متاهة نتائج الانقلاب الذي كان يُحضر له سليماني في بغداد، وأيّ رئيس للوزراء موال لإيران لن يكون لمصلحة الكرد؛ لأن العراق، كأحوال لبنان واليمن وفلسطين وغيرها، ما هو إلا محطة للمشروع الطائفي في المنطقة، والذي كان قاسم سليماني المشرف على تنفيذه. ويُحتمل أن تدخل المنطقة في نار جديدة عبر الرد الإيراني، سواء العسكري المباشر، أو غيره من الأساليب، ويُخشى أن تكون كُردستان أحد خياراتها من ضمن الخيارات الأخرى من أفريقيا إلى أميركا اللاتينية، أو الدخول في عملية ابتزاز قوى وأحزاب كُردستانية ذات علاقات تاريخية مع إيران. سيكون الفصل في كركوك مع الموقف الكُردي من قوات الحشد الشعبي، والتي مارست كُل ما يُمكن اعتباره إهدارا لكرامة الإنسان وشهداء كُردستان، وبل كانت الوباء الأعظم الذي حل بكركوك، ومحاولة السيطرة على كامل أراضي كُردستان، فالتغلغل الإيراني في بعض القطاعات والمراكز الكُردية في الإقليم سيدفع أوراق الضغط التي يمتلكها لشرخ الصف الكُردي. كما أن البيان الناعم للإقليم بخصوص اغتيال سليماني جاء في حالته السياسية من دون إدانات، ومحاولة إيجاد توازن بين وضعه الداخلي وعدم رغبته في الابتعاد عن أميركا والتزام الحياد تجاه إيران، وهو ما يشي بإدراك الإقليم حجم المخاطر التي رُبما توجد بداخله حيال هذا الأمر. وهو ما يتطلب اتفاق الكُتل الكُردية، بشكل جذري ونهائي، عوضاً عن تسطيح المشكلة.
تتجاوز القضية اغتيال ممثل المرشد الأعلى، لتشكل رسالةً بشأن التوجه الأميركي المستقبلي حيال 
إيران، فالهدف (سليماني) كان أمام الأعين الأميركية في حربها ضد "داعش" في الموصل، وبل حاربوا سوية، وبوجود منسقين أميركيين بين الجيشين، الإيراني والأميركي، في الموصل. تطور الهدف من مجرد قنص راسم المخططات الإيرانية ومنفذها إلى مُرشح الرئاسة المُقبل، حيث استعداد سليماني للترشّح والفوز برئاسة الجمهورية الإيرانية. وبرفقة من قُتل مع سليماني قرب مطار بغداد، فإن رسالة الرئيس الأميركي، ترامب، كانت ثُلاثية في ظاهرها، لكنها متعدّدة الرؤوس في باطنها. فتنوع جنسيات من اقتنصتهم الطائرة الأميركية المسيّرة ما بين عراقيين وإيرانيين خصوصاً، في ظل نفي سقوط قتلى لبنانيين، جاء يؤكد توجهات ترامب الحالية، وما بعد الانتخابية أيضاً، حيال شمولية قراراته في ملف الأمن القومي الأميركي في المنطقة، يُضاف إليها مطار دمشق حيث إقلاع طائرته. والثانية عمق الاستشعار الأميركي بحجم الخطر المُحدق بمصالحه في العراق، حيال تمكّن قاسم سليماني، ومن معه، من الوصول إلى حيث قادة "الحشد الشعبي" والأحزاب الموالية لإيران، وإمكانية إحداث انقلاب في العراق، وتضرّر المصالح الأميركية في كُردستان العراق، سيكون من أول ثماره حِصار أميركا سياسياً في العراق، ورُبما فك شيء من العزلة الاقتصادية على إيران. والثالثة: تتمحور حول مدى احترام البيت الأبيض المواطن الأميركي، حيث جاء في البيان الرسمي أنه كان "إجراء دفاعيا من أجل حماية العاملين الأميركيين في الخارج". بينما تتسع دائرة الرسائل المحملة مع الطائرة المسيرة لتشمل الكرد في سورية والعراق والمعارضة السورية والأطراف السياسية العراقية، بضرورة اتخاذ موقفٍ واضح وصريح مع أميركا أو ضدّها.
كما أن عملية الاغتيال، عبر طائرة مسيرة، أثبتت كفاءة القوة الأميركية وتغلبها على الغرور 
الإيراني المقتنع بسيطرته على العراق، وخصوصا أن العملية تمت من دون إزعاج أو توفر حماية لمطلوبٍ دولي، كقاسم سليماني، ومن معه، أو كشف للطائرة المسيّرة التي استهدفت أخطر شخصيةٍ في دول المنطقة، وبات ممكنا الحديث عن عودة السيطرة الأميركية على العراق، فيما لو استمرت بتعاملها الشديد صوب إيران في بغداد وباقي المناطق العراقية، وهو ما تجسّد بنقل السفير وموظفي السفارة إلى أربيل، وربما يتجه السلك الدبلوماسي برمته في بغداد صوب أربيل بعد عملية الاغتيال والتهديد الإيراني، وهذه إحدى ثمرات الضربة الأميركية لصالح إقليم كُردستان.
كعادتهم، وكما سائر الشعوب التي لا تجد فرحتها عبر أحزان غيرها، لم يكن الكرد شامتين بموت سليماني بهذه الطريقة، على الرغم من أنه المسؤول الأول عن مآسٍ كثيرة حصلت في سورية والعراق ولبنان وإيران، فوجدان الأكراد لا يزال حياً للنضال من أجل الحفاظ على حقهم في الحياة. ولكن كُردستان العراق، هذه المرة، سيكون أمام طوق النجاة الأبدي، وقد نجد إعادة أحياء ملف الاستفتاء مُجدداً، أو انشطار الاتفاقيات الكُردية – الكُردية مُجدداً، وهذه المرة ستكون بكلفة باهظة جغرافياً وسياسياً، ورُبما بشرياً.