في العلاقات

في العلاقات

02 نوفمبر 2019
+ الخط -
أستغرب بحث عديد من الرجال والنساء عن مواصفات حالمة ومحددة في شركائهم المحتملين، وأنا لا ألغي هنا حقهم في فعل ذلك، لكن استغرابي هو من عدم بحثهم بالموازاة عن مدى ملاءمتهم لذلك الشريك إن وُجد، فكثير منا (منا نحن معشر البشر) يعتقد أن "الآخر" من يجب أن تتوفر فيه كامل الشروط المطلوبة وأنه بعد ذلك مجبر على تكييف نفسه مع كياننا، دون أن نضطر نحن لتغيير أي شيء فينا، لأننا حسب ظننا "مثاليون"، نستحق "الآخر" كيفما كنا، ولا نتكبد عناء التساؤل حول مدى استحقاقنا له، بل نعمد إلى أن نمنّ عليه بوجودنا معه.

نعيش داخل فقاعة من النرجسية تجعلنا نركز فقط على عيوب الآخر ولا نفطن لعيوبنا، نهاجمه عند كل هفوة ونمعن في انتقاده، بل نختلق له هفوات ونضخمها ونشعره دائما بأنه لا يبذل ما يكفي ليستحقنا، وعندما يطفح كيل "الآخر" ويقرر تركنا، نسارع إلى قلب الأدوار ولعب دور الضحية الموسومة بالتعاطف والتسامح، فنجعله يعتقد أنه المذنب في نهاية المطاف، رغم أن جوهر المشكل والخطأ منا نحن، وردة فعله الطبيعية تلك هي تعبير منطقي عن رفض استمرار حالة من الاستغلال العاطفي والإنهاك النفسي، لكننا بمكر نستغبيه ونقنعه بعكس الحقيقة، فيعتذر عن شيء لم يفعله، الأمر برمته كأن تؤذي شخصا لطالما اعتنى بك، فيصرح لك بذلك، فتهم أنت بنهره، فيأتيك قائلا: "آسف جدا على اهتمامي الشديد بك وطيبتي البالغة التي جعلتك تستهين بي وتعتبرني من المسلّمات، لتهملني بعد ذلك وتجرح مشاعري، فأثور عليك وأعبر عن انزعاجي، ما أثار حفيظتك واضطرك لمعاملتي بسوء أكبر، أنا آسف جدا. لم أقصد إقلاقك بالإفصاح عن شعوري. أنا مخطئ، سامحني أرجوك!".

في المقابل، على صعيد ثانٍ، البعض يجزم بكون قوة العاطفة تجاه الآخر كفيلة بنجاح العلاقة بين الرجل والمرأة، والحب لوحده كافٍ للمضي قدما بثبات، لكن الأمر غير صحيح، لأن "الحب" بذاته حالة شعورية مركبة، تتدخل في بنائها عدة عوامل وعناصر فعالة، ولا يمكن الاستكانة إلى الجانب الرومانسي فقط للجزم بنجاح العلاقة، النجاح هنا ليس بمعنى إرساء العلاقة وتشكيلها، بل بمعنى استمرارية هذه العلاقة وحفاظها على قدر معقول من التوازن بين الطرفين أخذا وعطاء؛ لا يجب أيضا فهم الاستمرارية بمعنى مدة استمرار العلاقة، بل باستمرار جودة العلاقة خلال تلك المدة، فقد يكون زواج امتد لسنتين وانتهى بالطلاق لأسباب معينة، أنجح قطعا من زواج دام 40 سنة وما زال مستمرا. كيف ذلك؟

الطرفان في العلاقة الأولى أحبا بعضهما قولا وفعلا، منحا بعضهما نفس الكم من الاهتمام وقسّما بعدل الحقوق والواجبات، لكن حدثا فجائيا قلب العلاقة، كوقوع انهيار عاطفي أو جمود مشاعر لدى أحد الطرفين، أو اكتشاف أحدهما لجانب جديد في شخصية الشريك لم يقدر الصبر عليه، أو الإحساس بتقلص الرغبة في الآخر، القراءة المتبصرة لتلك الإشارات ستقود الطرفين إلى الفراق كحل صحي، بعد استنفاد جميع وسائل العلاج والإصلاح حال اللجوء إليها. لن يكون الفراق حزينا، أو على الأقل لن يكون حزينا جدا، لأنهما يدركان أن تلك نهاية فترة من العيش المشترك الهني الذي قُدّر له التوقف، وهذا ليس دليل فشل كما سيعتقد البعض، بل هو نجاح للعلاقة خلال فترة إقامتها، ونجاح لتدبيرها عند المرور بأزمة قاهرة لا تقبل بديلا غير الذهاب في سبل مفترقة والانفتاح على آفاق جديدة.

أما زواج الأربعين سنة، الذي يفاخر أصحابه بطول مدته، معتبرين أن ذاك عربون نجاح، فقد لا يعدو ربما كونه خشبا منخورا مهترئا غلف بثوب حريري يقيه الانكشاف أمام الناس، بل حتى أمام أصحابه، ستجد الطرفين ينكران حقيقة أن زواجهما انتهى منذ فترة طويلة، وأن الشيء الوحيد لبقائهما معا هو الأبناء إن افترضنا وجودهم، أو نظرة العائلة والمجتمع، أو مصالح مشتركة أو غيرها، وغالبا ما تجد أحد الطرفين في مثل هذه الزيجات من يقع على كاهله عبء تحمل الآخر لأسباب واعتبارات أقنع نفسه بأهميتها وخطرها، فتعتليه حالة من الخوف وعدم اليقين حول مصيره إن بادر للمغادرة، مفضلا عدم الانسحاب وتضييع حياته في علاقة مسمومة فاشلة طويلة الأجل.

الوضع يشبه حكاية فرد يهاب ترك وظيفة ما عادت تعجبه كما في البداية لأن الرتابة تلفها ومهامها تزايدت دون تعويض يواكبها، وبدأت تقتل مهاراته وتقوضها...، كل ذلك فقط لخشيته عدم إيجاد فرصة عمل أخرى. مثال الزواج والوظيفة تجسيد للموت الإكلينيكي أو الموت البطيء الذي يرضاه بعض الناس لأنفسهم إذعانا لغياب قدرتهم على الخروج من منطقة الراحة (الكومفرت زون)، ويا ليتها أصلا كانت راحة، بل هي حكم بالإعدام مع وقف التنفيذ.

غير بعيد عن هذا السياق، يشتكي عديد من المرتبطين من ظاهرة "نقص الاهتمام" عند الشريك، وغالبا ما تصدر هذه الشكوى من طرف النساء، ولا يخطر على بالهن وجود مقاربة أخرى للموضوع في إطار العلاقات العاطفية.

الأمر هنا أبعد من أي يكون مجرد سؤالهن عن مدى استحقاقهن لمستوى الاهتمام الذي حظين به سابقا بل وحتى الذي يحظين به حاليا. في الحقيقة، وجب التفريق بين أنواع الاهتمام وظرفياته، لأن ذلك محدد رئيس للمدة الزمنية التي يأخذها الاهتمام ومستوى قوته.
الاهتمام قبل كل شيء درجات متفاوتة، والدرجة مرتبطة بالحالة التي يعيشها الطرفان، ففي مرحلة التعارف مثلا، يميل أغلب الرجال إلى إبداء اهتمام قياسي بالمرأة بغية لفت نظرها، وهذا أمر منطقي، لأن المرأة عموما تحب لعبة التمنع والانتقاء، خصوصا التي تجد أمامها عدة خيارات متشابهة، فتحسم الأمر باختيار الرجل الأكثر تميزا، وغالبا ما يكون الأكثر اهتماما بها، هذا الأمر يلقي الرجل في أجواء تنافسية تضطره إلى إبداء اهتمام مبالغ فيه بالمرأة قصد الحصول على إعجابها، وهذا لا يعني وجوب حفاظه على نفس القدر من الاهتمام بعد بدء العلاقة، لأن الاهتمام في تلك الظرفية كان لغرض معين، والمرأة بدورها تعرف ذلك ولا يجوز أبدا أن تنكر عليه نقص الاهتمام لاحقا، أو بالأحرى عودته إلى درجة طبيعية. هي التي اخترعت اللعبة وسنت لها قوانين، فكيف تخرقها؟!
إن التي تتوقع أن يهتم بها الرجل بنفس الدرجة طيلة الوقت، هي امرأة حالمة جدا، خصوصا تلك الموقنة بأحقيتها في تلقي كل الشغف والعناية دون إعطاء نظير ذلك بالمقابل، لأن الاهتمام عملية تبادلية، استمرارها رهين باستثمار متساو من كلا الطرفين. وهناك حالات، ليست بالضرورة استثنائية، يكون فيها أحد الشريكين أكثر اهتماما بالآخر، وهذا ليس عيبا ما دام رضائيا ومقنعا لكليهما، فالرجل مثلا مهما بذل من اهتمام يبدو ضخما تجاه شريكته، يكفيه أن تظهر له نصف أو ربع ما يفعل من أجلها، ليشعر هو بالرضى والاكتفاء العاطفي، (والعكس صحيح).

من ناحية أخرى، يفترض في المرتبطين معرفة نوع الاهتمام الذي يمكن للشريك تقديمه قبل الانخراط في علاقة جدية طويلة الأمد، لأن ديمومة الاهتمام لا تكون عنصرا إيجابيا إذا لم توافق نوعيته متطلبات الشريك، فهناك مثلا من النساء من تريد رجلا يسأل عنها خلال اليوم عدة مرات عبر الهاتف والرسائل النصية، ويجلب لها وردا أو شوكولاته في نهاية اليوم، وقد يفاجئها بهدية من حين لآخر ويمعن في التعبير لها عن حبه، ولا يزعجها أنه بالموازاة لا يعينها أبدا في شيء من أعمال المنزل أو باقي مشاغل الحياة، لأنها وجدت ضالتها في "الاهتمام الرومانسي" الذي يغلب عليه القول الكثير والفعل البسيط؛ وقد يقول البعض إن في الأمر تناقضا، وإن التوازن لازم بين القول والفعل، لكن الواقع أن المسألة نسبية، ولا توجد صيغة موحدة مثالية يمكن اعتمادها في هذا السياق، لأن الشريكين فقط من لديهما حق اختيار نوع الاهتمام الذي يجدانه مناسبا، وليسا معنيين بتبني نظرية لكونها شائعة فحسب. ونحن هنا نحاول النظر إلى العلاقات من الداخل، لكشف تفاصيل دقيقة ستعيننا في فهم أوضح وأكثر تعاطفا إزاء نماذج قد نخالها أحيانا بعيدة عن فكرتنا المحدودة عن "العقلانية".

هذا يضعنا أمام صورة أخرى، يمكن أن نسميها بالاهتمام الفعلي، كامرأة تعبر بالفعل عن حبها واهتمامها بالشريك أكثر مما تنطق، وهذا لا يجعل منها "باردة المشاعر"، لكنها ألفت منح هذا النوع من الاهتمام دون غيره، وما دام شريكها يقبل بهذا الجانب من شخصيتها، فلا يمكن الجزم أبدا بكون علاقتهما غير صحية.

ولأن الحديث في موضوع "الاهتمام" طويل ومتشعب جداً، سأختم بنقطة مهمة أخيرة، تتعلق بمواقف يحاول فيها أحد الشريكين تطويع الآخر وإخضاعه لنمط الاهتمام المراد تحصيله، وهذا في رأيي سيفضي إلى استنفار الآخر بفعل الضغط المسلط عليه، وربما إحساسه بعدم الأهلية، وستنتهي القصة برغبته في المغادرة، حتى لو رضخ لفترة معينة وجرب تغيير نوع الاهتمام ليلائم الشريك؛ والأصح أن يكون الشريكان شفافين بهذا الخصوص منذ البداية ويتفاهما مسبقاً، ولو ضمنياً، حول نوع ومستوى الاهتمام الذي يريدان، عوض إيهام بعضهما بالتكامل والانسجام خشية انقطاع العلاقة.

دلالات

F0B6D78A-1675-4F16-B5B5-EAC815D3E9CD
أسامة حمامة

من مواليد العاصمة المغربية الرباط. خريج المعهد العالي للإعلام والاتصال.