في أن القصّة هي الأصل
في أن القصّة هي الأصل
شهرزاد تبدأ رواية أولى حكاياتها للسلطان (Getty)
جميعنا يعرف، اليوم، أن الإنسان مغرم بالقصص، وأن الحكاية أو الأسطورة هما في أساس تكوين الشعوب، إنما قلةٌ منا تعرف أن الحكاية هي ما جعلت هومو سابيانس (الإنسان العاقل) يتفوّق على الأصناف البشرية الأخرى التي عايشها مثل هومو نياندرتال، أو "هومو إيريكتوس" (الإنسان المنتصب)، ويسيطر على مختلف المخلوقات الحية، لا بل على العالم.
في كتابه "سابيانس، قصة موجزة عن البشرية"، الصادر عام 2014، والذي تحوّل سريعاً إلى "بيست سيللر" مترجم إلى عدة لغات عالمية، يقول المؤرخ الإسرائيلي من أصل لبناني، يوفال نوح هراري، إن الإنسان تمكّن من السيطرة على العالم، لأنه يجيد الثرثرة وتناقل الأخبار. وهذا معناه، أنه، بخلاف الحيوانات الأخرى، قادر على أن يتكلّم عن أمورٍ غير موجودة فعليا.
التأليف والتخيل هما ما جعلا البشر يتخيلون أشياء، لا بشكل فردي فقط، وإنما جماعياً. فما يميز الإنسان عن بقية الحيوانات ليس موجوداً على المستوى الفردي، وإنما على المستوى الجماعي. البشر يتحكمون في الكرة الأرضية، لأنهم الحيوانات الوحيدة القادرة على التعاون في ما بينها، بمرونةٍ وعلى نطاق واسع جداً. هناك بالطبع حشراتٌ اجتماعيةُ، كالنحل والنمل التي تتعاون بأعداد كبيرة، غير أن تعاونها هذا يبقى مناطاً بنظام تعاون أوحد، وهو صارم لا يتغير، بمعنى أنه غير قابل للتعديل، مهما كانت الظروف. وهناك أيضاً ثدييات اجتماعية تتعاون بشكل مرن، لكنها تفعل بأعدادٍ قليلة، إذ تجتمع كعائلة أو كجماعة.
إذا وضعت قرد شمبانزي قبالة إنسان، سيربح القرد حتماً. ولكن، إذا وضعت ألف قرد مقابل ألف بشري، فسيربح البشر حتماً؛ لأنهم، على عكس قردة شمبانزي التي ستخلق فوضى عارمة، سيتعاونون في ما بينهم وسيفوزون. إنما ليست كل الأشياء التي تقوم على تعاون أعدادٍ هائلة من البشر في ما بينهم أشياء حميدة، إذ قام أيضاً أسوأ ما في تاريخ البشرية على نظام التعاون هذا. السجون مثلاً، المسالخ، معسكرات الاعتقال، الحروب، إلخ...
ويبقى السؤال: لماذا يستطيع البشر وحدهم أن يتعاونوا بمرونةٍ وبأعدادٍ هائلة؟ الجواب، بحسب هراري، هو المخيلة. فنحن الوحيدون القادرون على ابتكار قصص خيالية وتصديقها. وطالما آمن كل منا بالقصص الخيالية تلك، فمعناه أن كلاً منا سيتبع القواعد والقيم نفسها.
تمتلك الحيوانات الأخرى أنظمةَ تواصلٍ، وظيفتها محصورةٌ في وصف الواقع المحيط بها، كالتدليل على خطرٍ ما، أو على مصدر طعام. أما الإنسان فيستخدم لغاته المختلفة، لا لوصف الواقع فقط، وإنما أيضاً لابتكار واقع جديد، متخيّل كلية، وهذا هو بالضبط سبب تحكّمه في العالم.
في نطاق الدين، يتعاون البشر لإيمانهم بالقصص نفسها. هكذا تجتمع أعداد هائلة لبناء كاتدرائية أو مسجد، أو للقيام بحروبٍ صليبية وحروب جهاد، طالما أنهم يؤمنون بقصص الجنة والنار نفسها. لا ينطبق هذا على الدين فحسب، بل على كل الحقول من دون استثناء. في المجال الحقوقي مثلاً، الأمر هو نفسه، إذ تتعاون منظمات عالمية لإيمانها بحقوق الإنسان. لكن، ما هي حقوق الإنسان؟ إنها أيضا قصة مختلقة، كذلك هي السياسة والاقتصاد، ليسا حقائق موضوعية، وإنما قصص اخترعها الرواة المهرة والسحرة المشعوذون، حتى باتت اليوم تحكم حياتنا. المال هو من أكثر القصص المبتكرة نجاحاً، كونها القصة الوحيدة التي يؤمن بها الجميع.
والحال أن البشر يتحكّمون في العالم، لأنهم يعيشون واقعاً مزدوجاً، الأول تعيشه الحيوانات كافة، وهو واقع موضوعي، تحكمه كينوناتٌ موضوعية: جبال، أنهار، أسود، أشجار، فيلة، إلخ. وواقع ثانٍ يشكل طبقةً فوق الأول، خياليّ، وقد تم اختلاقه على مر العصور، مؤلفٌ من كينوناتٍ متخيَّلةٍ مثل المال، الشركات، الأمم. والمذهل أن الواقع الخيالي هذا قد ازداد مع الزمن سطوةً ونفوذاً، حتى بات اليوم يتهدّد وجود الواقع الموضوعي نفسه، على الرغم من وجوده فقط في خيالنا.
ويبقى السؤال: أنكون نحن المسؤولين قد تخيلنا العالم، وحلمناه بهذا السوء؟ أتكون تلك هي، إذن، كل القصة؟