فييتنام... بلاد الحروب قنبلة اقتصادية

فييتنام... بلاد الحروب قنبلة اقتصادية

10 مايو 2015
40 عاماً على وحدة فييتنام (هوانغ دين نام/فرانس برس)
+ الخط -
منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، وعلى مدى العقود الماضية، كانت فييتنام أشبه بالمرأة الثانية في حياة كل يساري، فقد شكّلت بلاد الفييتكونغ فسحة جذبت مخيّلة التقدميين، الحالمين بقدرة الشعوب الفقيرة والصغيرة على تحديد مسارها، ومواجهة المطامع الجيواستراتيجية الكبرى.

كانت فييتنام عنواناً للصمود في وجه الآلة العسكرية الأقوى في العالم، ورمزاً واعداً لحركات التحرر التي كانت ما تزال تناضل ضد الاستعمار. وهي كانت أيضاً خط الدفاع المتقدم، الذي رسمته الولايات المتحدة لصدّ التمدد الشيوعي، في القارة الآسيوية عبر مضائق سنغافورة الحيوية.

في فييتنام خاض الأميركيون حرباً مريرة لمنع السقوط المتعاقب للأنظمة الواقعة ضمن دائرة النفوذ السوفييتي. لكن فييتنام ترسّخت في الذاكرة التاريخية والسياسية، كالجرح الأعمق في الجسم العسكري للولايات المتحدة، والهزة الأقوى في الوجدان المجتمعي الأميركي، والتي ما زالت ارتداداتها تتفاعل إلى اليوم.

أكثر من عشرة ملايين أميركي شاركوا في حرب فييتنام (1963 ـ 1975)، نصفهم من العسكريين. قضى 60 ألفاً منهم، وأُصيب مائة ألف آخرون بإعاقات دائمة، كما انتحر 70 ألفاً من الذين شاركوا فيها بعد عودتهم إلى ديارهم.

أوقعت المعارك خسائر فادحة في الجانبين ودماراً عشوائياً واسع النطاق، وارتُكبت فيها فظائع مشهودة بحقّ المدنيين، نتيجة استخدام الجيش الأميركي أسلحة كيميائية بشكل ممنهج طيلة الحرب، بلغت ضراوتها ستة أضعاف ضراوة مواجهات الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1954)، وفقاً لما قدّره خبراء.

اقرأ أيضاً أميركا: آسفة ولكن..

يجمع العالم أن الولايات المتحدة مُنيت بهزيمة عسكرية ونفسية في فييتنام، لكن الموقف الرسمي الأميركي يعتبر أن واشنطن لم تخسر الحرب التي جنّدت لها كل طاقاتها الدبلوماسية للتوقيع على التسوية التي أنهتها رسمياً مطلع عام 1974 في العاصمة الفرنسية باريس.

تخلّت واشنطن، بموجب التسوية، عن حلفائها الجنوبيين، الذين ما لبثوا أن انهزموا أمام زحف ثوار الشمال الشيوعيين. مع ذلك، تتباهى المؤسسة العسكرية الأميركية في أدبياتها وتحليلاتها، بأن "التدخّل في فييتنام كان وراء طرد السوفييت من إندونيسيا أواخر الستينيات، وحال دون وقوع الفيليبين وماليزيا وسنغافورة وتايلاند في دائرة النفوذ الشيوعي".

لعلّ أغرب ما في تلك الحرب أن الانتصار العسكري الأكبر، الذي حققه الجيش الأميركي نهاية عام 1968، بفعل هجوم مضاد على قوات شمالية، كانت قد اجتاحت مناطق جنوبية واسعة، وأوقع في صفوفها أفدح الخسائر في تاريخ الحروب، شكّل بداية التراجع المعنوي والنفسي للأميركيين، عندما بدأت وسائل الإعلام تنقل مشاهد الفظائع المروّعة إلى العالم. أحدثت المشاهد صدمة نفسية قوية وعميقة في المجتمع الأميركي، الذي قامت فيه حركات واسعة منددة بالحرب، وارتفعت أصوات كثيرة تطالب بإنهائها.

خسرت الولايات المتحدة الحرب، لكن بعد 40 عاماً على نهايتها، باتت واشنطن الشريك التجاري الأول لهانوي، التي يُسجّل اقتصادها أعلى مستويات النمو، بعد الصين، في ظلّ حكم الحزب الشيوعي. وتعزّز الشركات والمصانع الأميركية انتشارها على امتداد بلاد الـ332.689 كيلومتراً مربّعاً، الذي دمّر الجيش الأميركي بنيته التحتية تدميراً كاملاً وأحرق ثلث غاباته. كما تشهد بورصة هانوي حركة محمومة، على غرار بورصات نيويورك ولندن وطوكيو في المبنى، الذي كان يقود فيه الزعيم الشيوعي هو شي مين، عمليات حرب العصابات ضد الولايات المتحدة.

عمدت فييتنام إلى تحصين موقعها الاقتصادي في قطاع الزراعة، الذي انتظم حول التعاونيات الريفية، عماد نهضتها بعد استعادة وحدتها في عام 1975، من دون مساعدات خارجية، وفي عزلة شبه تامة بعد ثلاثة عقود من الحروب المدمّرة.

وفي أواخر الثمانينيات، حققت فييتنام أهداف الاكتفاء الذاتي من المنتوجات الزراعية والغذائية الأساسية، وأصبحت مصدّراً إقليمياً رئيسياً لبعضها، مثل الأرز، وبدأت مرحلة اندماج حذر ومضطرد في النظام الاقتصادي الليبرالي.

تبنّت هانوي معايير السوق الحرة والمؤسسات الخاصة، ضمن المعادلة الآسيوية التي وضعها مؤسس سنغافورة وصانع معجزتها الاقتصادية لي كوان يو، الذي توفّي في 23 مارس/آذار الماضي، وكرّمته فييتنام كواحد من عظمائها.

وفي وقتٍ كان العالم يركّز اهتمامه على نموّ العملاق الصيني، كانت فييتنام تُحقّق الإنجاز الاقتصادي تلو الآخر، وتُسجّل معدّلات نموٍّ لا تقلّ عن المعدّلات الصينية. وتُفيد دراسة لصندوق النقد الدولي بأن نسبة نمو الادخار الأسري في فييتنام، هي الأسرع في العالم، بعد الهند وإندونيسيا، وأن معدلات النمو الاقتصادي ستبقى مستقرة للعقدين المقبلين، نتيجة الارتفاع المُضطرد في الأجور والاستهلاك الفردي.

في حديث مع مجموعة من الصحافيين الأجانب على هامش لقاء برلماني في هانوي، توقّع رئيس الوزراء الفييتنامي نغويين تان دونغ، الرجل القوي في النظام، أن تصبح بلاده في عداد الدول الصناعية العشرين الأولى في العالم، بحلول عام 2030.

لكنه استبعد أي تعديل على نظام حزب الحكم الواحد في المستقبل القريب، وقال إن "حكومته تدرس مجموعة من الأفكار، تمهيداً لطرح قانون ينظّم النشاط السياسي التعددي، انطلاقاً من التجربة الفييتنامية الخاصة، ومستخلصاً العِبَر من تجارب أخرى، على أن يبدأ تطبيقه اعتباراً من مطلع العقد المقبل". ورفض تان دونغ التعليق على حالات الفساد المتنامي في أوساط كبار المسؤولين، وعن عشرات الصحافيين المعتقلين بسبب إصرارهم على كشف وملاحقة هذه الحالات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. بعد أكثر من 40 عاماً على انتهاء حرب فييتنام، استوعب نظام الحزب الواحد، تداعيات الانفتاح الاقتصادي، وأحكم قبضته على وسائل الإعلام، ولم يتجاوب مع الدعوات للانفتاح السياسي.

لكن حالات الفساد الجامح في أوساط المسؤولين السياسيين، الذين يراكمون ثروات طائلة، ويعيشون حياة باذخة، وسط تزايد الهوة بين المدن والأرياف، وداخل المدن الكبرى، التي تنمو فيها أحزمة الفقر المكتظة بالسكان، بدأت تضعف قدرة الحكومة على تجاهل المطالب المتزايدة بالتغيير السياسي وتعددية الأحزاب وإجراء الانتخابات الديمقراطية، في وقتٍ تنمو فيه حركات الاحتجاج الشعبي ضد الاستفزازت الصينية حول الحدود البحرية والجزر، في ظلّ عجز النظام عن مواجهتها.

اقرأ أيضاً: الصين التي يخشاها الجميع

المساهمون