فوزي كريم.. الغناء من قاع الهاوية

فوزي كريم.. الغناء من قاع الهاوية

20 مايو 2019
(فوزي كريم في بروتريه لـ أنس عوض، العربي الجديد)
+ الخط -

ما إن بلغني نبأ وفاة الشاعر فوزي كريم حتى أقبلت على مجموعاته الشعرية أقرؤها من جديد وكأنّني أردت، بهذا الصنيع، أن أسمع، من خلال قصائده، حفيف أنفاسه، وأبصرَ ضوء روحه وأتناسى هذا النبأ.. فاللقاءات القليلة التي جمعتني بكريم ظلّت حاضرة في الذاكرة، إذ مكنتني من التعرف إلى شاعر مختلف عن كل الشعراء الذين عرفت..

شاعر يتغنّى، مستحضراً مراسم الإنشاد القديمة، بقصائد الشعراء القدامى ثمّ يعرّج، بنباهة، على الشعر الحديث ليقرأ نماذج منه بحماسة كبيرة ثمّ يعدل عن كلّ ذلك ليتحدّث عن الموسيقى حديث المختصّ النبيه مشيراً إلى ما تختزنه من إمكانات فكرية قصرت عن اختزانها لغة الكلام ثمّ يلتفت، بعد ذلك، لتجربته في الرسم والنحت فيتبسّط في الحديث عنها.

وهو، أثناء كلّ ذلك، يروي فصولاً من سيرة حياته، فيحدثك عن العباسية، محلّته في قلب بغداد، ثمّ يصوّر لك خروجه إلى بيروت فعودته إلى بغداد فهجرته إلى إنكلترا...

والواقع أنّ تجربة فوزي كريم، على شهرتها داخل العراق، لم تحظ، عربيّاً، بالعناية التي تستحقّ. ربّما بسبب جدة خطابها الشعري والتباس أسئلتها وربما بسبب زهد صاحبها في الشهرة والانتشار. فإذا كان الشعراء الستينيون من أمثال سركون بولص وفاضل العزاوي وسامي مهدي وحسب الشيخ جعفر قد لفتوا انتباه النقّاد العرب فأداروا على قصائدهم الكثير من دراساتهم وبحوثهم؛ فإنّ شعر فوزي كريم ظلّ مجهولاً في أكثر البلاد العربيّة، لم ينعطف على دراسته إلّا عدد قليل من النقاد والباحثين. والحال أنّ هذا الشاعر قد كتب عدداً مهماً من الأعمال الشعرية والنثرية الجديرة بالاهتمام والعناية.

صحيح أنّ كريم ينتمي إلى جيل الستينيات لكن هذا الانتماء لا يعني التطابق مع بقيّة الشعراء، فالشاعر بدا منذ ديوانه الأوّل؛ "حيث تبدأ الأشياء"، الصادر في عام 1968، مختلفاً عن مجايليه لغة وطرائق بناء:

"آه يا صوت بلادي
يا شراييني التي مزّقها نجم وضاعا
إنّني أقسم بالخبز الذي يحمل موتي
وبأيّامي التي تخطو مع الريح سراعا...".

فهذا الصوت الذي تشوبه نبرة شجن لا تخفى عن السامع قد صاغ منذ الديوان الأول أسئلته الشعرية والفنيّة المخصوصة فكتب قصيدة جديدة في معجمها جديدة في صورها.

هذا الديوان الأول تضمّن، بطريقة مستترة، مشروع فوزي كريم الشعري، وهو المشروع القائم على الاحتجاج، الذي ينطلق - على حد عبارة الشاعر - "من موقف أخلاقي ضد الشرّ وجمالي ضد القبح وغيبي ضد القدر الأعمى" وهو ما جسّده ديوان "أرفع يدي احتجاجاً" على نحو واضح.

إنّ النّاظر في مدوّنة صاحب "ثياب الإمبراطور" يلحظُ، ببديهة النّظر، الحضور القويّ لصورة الشاعر المنفيّ الذي يتحسَّسُ مسالك العالم بعصا اللّغة. هذا "الإحساس بالغربة" هو مولّد الدّلالات، في قصائد كريم، منهُ تتحدّر الصّور يأخذ بعضها برقاب بعض في ضرب من التّداعي.

صورٌ قد تتبدّى للوهلة الأولى فوضى لا ينتظمها خيطٌ يشدّ مفترقها، ويجمع مختلفها، فبعضها يخاطبُ جارحة النّظر، وبعضها يخاطب جارحة السَّمْع، وبعضُها يخاطب جوارح في الإنسان ألطف. غير أنّ هذه الصّور تظلّ على اختلاف ألوانها، وتباين أطيافها، منشدّة إلى دَلالة "الغربة" أو "النفي" لكأنّ الشّعْرَ لَا يبدأ إلّا حينَ ينعزل الشاعر عن العالم، وينفصل عن الكائنات، وينكفئ على ذاته:

"حلّقت دون أن يكون لي جناحان ولا مخلب
فمن أضاء رغبتي بسطوة النسر
وأعطاني مذاق الأفق
بيتي من زجاج
كلّما داهمني الإحساس بالنفي
وبعدي عن سرير النوم
أختضّ ويبتلّ جبيني".

كُلّ قصائد الشاعر العراقي كانت تهجسُ بهذه الدّلالة. كأن هذه القصائد هي الشّهَادَة على عزلة الكائن وغربته وسط عالم يناوئه، لكأنّها الشهادة على الشّعر يقاومُ هذه العزلة ويسعى إلى تبديدها. وتتجلّى هذه الدّلالة أقوى ما تتجلّى في قصائد الشاعر الأخيرة. هذه القصائد أفصحتْ عمّا ظلّ في المجاميع السابقة مضمراً خفيّاً مستتراً:

"ما إن مددت يدي كي أُعانق
حتى رأيت يدي ارتفعت للوداع".

إن الشّعر في هذه القصائد لا يخبرُ عن العالم وإنما يختبره، يكشف عنه، يمسك به. فوظيفة الشّعر، في هذه القصائد تتمثّل في إحكام قبضة اللّغة على الوجود، في احتوائه وامتلاكه.

لقد اختفت في هذه القصائد أطياف الرؤيا الرسولية التي انتشرت في قصائد الشعراء الروّاد وبعض شعراء الستينيات، ووجّهت صورها ومجمل رموزها، ومن خصائص هذه الرؤيا أنها تعدّ الشاعر إنساناً مَخْصُوصاً برسالة، يمضي مبشّراً بنبوّته، مفتوناً بالموت يتوّج تمرّده، وقامت مقامها رسالة أخرى تقول: "إنّه لا يمكنُ الانتصارُ على الموت أو تجاهل نداء الحياة" وحلّت محلّها، في قصائد كريم، صورة الشاعر الوحيد مع لغته، مع قدره.

على هذا بات الشّعر حيلة الشاعر حتى يحتميَ من الغربة، ويمحو الشعور المستفحل بالوحدة. فالكتابة هي الدّرع الباقية يحملها الشاعرُ تردّ عنه عواديَ الزّمن، هي حجّته الأخيرة على إمكان البقاء، على إمكان المقاومة.

عند وصيد هذه التجربة يصبح الشّعر ضرباً من الاستدراك على القدر والزّوال والبلى. ففعل الكتابة هو، في جوهره، فعل وجود، عن طريقه لا يفتأ الإنسان يبْتكِرُ ذاته، ويبتكر العالم من حوله ومن ثمّة فهو نفيٌ للموت، واستبصار في مطلقِ الوجود.

قصائد كريم تبقى على اختلاف مراحلها، وتقاذف المسافات بينها تهجسُ بسؤال واحد هو سؤال الكتابة. هذا السّؤال قد تجلّى في أشكال عديدة وأساليب كثيرة لكنّه بقي، مع ذلك، واحداً في تعدّد أشكاله وتكاثر أساليبه. فقصائد هذا الشاعر لم تكن إلّا إعلاناً عن تصوّر مخصوص لفعل الكتابة، لوظيفتها الأنطولوجيّة والكيانيّة، الكتابة من حيث هي نشدان للمعنى، بحثٌ ممضٌّ من أجل الظّفر به. لا شيء يُسَوّغُ فعل الكتابة عند الشاعر، غير ذلك النّشدان، وهذا البحث.

ولعلّ هذه القدرةَ العجيبة على الاستمرار في تعقّب المعنى وملاحقته هي التي قادت الشّاعر إلى ذُرًى تعبيريّة جديدة، هي التي قادت قصائده إلى الوقوف على حافّة الصّمت، على حافّة الموت.

إنّ القراءة الأيديولوجيّة قد أخطأت السبيل إلى ذلك السّؤال، سؤال الكتابة، فلم تتمكّن من الظّفر به، لأنّها عدّت الدوالّ محضَ وسائط لمعانٍ تقعُ خارجها، محض أعراض لأغراض أخفى فطمسَتْ بذلك جوهر القصيدة وحوّلتْ لألاءَ نارها إلى رمادٍ.

لم يطمئن فوزي كريم لقصيدة واحدة يحاذيها ويحاكيها بل كان دائم القلق والتسآل يبحث عن آفاق تعبيريّة جديدة تقول تجربته وتُفصحُ عن عميق رؤاه. فالانعطافُ على مدوّنة هذا الشاعر انعطافٌ على قصيدة متحوّلة باستمرار، لا تفتأ تبحث عن ذرى شعريّة وجماليّة جديدة. هذا البحث هو الذي جعلها تنتقل من مرحلة إلى أخرى، ومن تجربة إلى ثانية. تصبو إلى الإيفاء بشرائط الكتابة الشعريّة من غير أن تنحرف عن السؤال الوجودي الذي تتضمّنه. لهذا يمكن القول إنّ قصيدة فوزي كريم لا تتجلّى على هيئة واحدة مرّتين. كلّ تجلٍّ يذهب بقصيدة قديمة ويأتي بقصيدة جديدة.

ظلّ كريم يراوح بين الكتابات الإبداعية والدراسات النقدية يجمع بينهما جمع تآلف وانسجام. فهو في أكثر الأحيان يبدع ثم يرتدّ على ما يبدعه بالنظر والتأمل، وقد تناولت كتبه النقدية ظاهرة "الحداثة" تتأملها وتكشف عن العوائق التي تعتقل إمكانات الشعر وتحدّ من اندفاعه.

ومن أهم هذه الكتب "ثياب الإمبراطور" وهذا العنوان مستلهم، كما هو واضح، من قصة أندرسن التي تنطوي على إدانة للكذب وسوء الطويّة. وقد أبرز كريم من خلال هذا الكتاب وجوه الزيف والخداع المتبادل في الكتابة الجديدة: "لقد اتسعت الظاهرة كالسرطان، ظاهرة الاحتفاء الخادع بالإبداع الجديد الذي لا يطاله العامة ولا الخاصة من قرّاء العربية. العامة عافت الخدعة وهجرت الكتاب ولم تعد تقرأ، والخاصة صارت تقرأ مضطرّة وتطرب كذباً خشية أن تتّهم بالتخلّف وتدنّي الوعي الحداثي..".

هذا الكتاب الذي أحدث ضجة في أوساط المثقفين لفت النظر إلى وجود حداثة معطوبة، حداثة زائفة في ثقافتنا العربية ينبغي مقاومتها والتصدّي لها. كل الكتاب إنّما هو دعوة لشكل جديد من التفكير وهو التفكير بالمطرقة..

تصوّر أعمال فوزي كريم، في مجملها، حركة الروح تتأبّى على سلاسلها، وتسعى عن طريق الكتابة إلى استبدال زمن بآخر، ومنظومة قيميّة بمنظومة أخرى، فقدر الإنسان، من خلال هذه الأعمال، أن يرقص داخل أغلاله، ويرفع في قاع الهاوية عقيرته بالغناء.


* شاعر من تونس

المساهمون