فوتوغرافيا رهاف البطنيجي... كأنّ شيئاً على وشك الحدوث

فوتوغرافيا رهاف البطنيجي... كأنّ شيئاً على وشك الحدوث

27 اغسطس 2020
تلتقط البطنيجي عنصر الزمن الذي يربط مفردات الصورة ببعضها بعضًا
+ الخط -

"يا رفاق، بكرة رح أفتتح معرضي الشخصي الأول في حاكورة دارنا، الساعة خمسة المسا حتى السابعة. العنوان: غزة، الشيخ عجلين.. بيت البطنيجي، خلف اللايت هاوس". هكذا، أعلنت الفوتوغرافية الفلسطينية رِهاف البطنيجي عن معرضها الفوتوغرافي الأول؛ إذ تقيمه في حاكورة منزلها، داعيةً أصدقاءها والناس للمجيء وحضور المعرض الذي يضم 25 صورة.

تتألّف فوتوغرافيا البطنيجي من مجموعة عناصر بصرية أساسية، إذ تحضر فيها الحيوانات، مثل المواشي والأسماك والأحصنة، إلى جانب الإنسان الذي دائماً ما نجده مقترناً بحضور تلك الحيوانات، والبحر، والباعة المتجولين، والوقت.. لعلّ الأخير هو العنصر الأبرز؛ إذ من خلاله نستشعر الحركة في الصورة، والسكون أيضاً، وهو الرّابط الذي ينسج العلاقة بين بقية العناصر.

عن إقامتها للمعرض في حاكورة البيت، تقول رِهاف في حديث إلى "العربي الجديد": "الحاكورة في بيتنا القديم في الشجاعية، كانت مزروعة بالكثير من ثمار مواسم التخزين، وكانت أيضاً مسرحاً مهمّاً لحفلات أفراح العائلة كلها، وللاحتفال بالأعياد، والتقاط صور جماعية لنا.. والأهم أنها ساحة اللعب، إذ نرسم الحجلة، ونخطط الحروف التي نتعلمها فوق باب الحديد، ونلعب بجانب فرن الطين". تضيف: "أتذكر جيداً حوض الرمل، الذي كنت ألعق الرمال منه وأتلذذ بفعل ذلك، كل هذا كان بالخفية.. كذلك، كنت أجبل الرمال بالماء، وأُشكل منها أشياءً كثيرة".

تتابع البطنيجي: "منذ أكثر من عشرين عاماً غادرنا الشجاعية، وانتقلنا للعيش بجانب البحر. حمل أبي الحاكورة بكامل تفاصيلها، وأعاد زراعة كل ما كان مزروعاً هناك، برفقة حفيده الذي يحمل اسمه، ليساعده في حمل الشتلات وجذور الأشجارـ ويحفر معه الأرض ويصعد معه النخلة... هذه اللحظات هي أهم لحظات الإلهام لي". وجدت البطنيجي في حاكورة البيت الجديد غرفةً صغيرة، جعلتها مخبأً سرياً، واستديو تعمل فيه.

رهاف

 

نُلاحظ هنا أن الحاكورة لدى المصوّرة هي بمثابة المكان الأول، كل ذكرياتها كانت هناك، وألعابها الأولى، وكذلك معرضها الأول. يبدو هنا كأنّ الفوتوغرافيا نوع من اللعب الناضج بالنسبة للبطنيجي: "هكذا أتحايل على الحياة"، تقول.
لكن، نتساءل أيضاً عن إمكانية أكبر للحاكورة؛ فماذا لو اتجه الفنانون إلى عرض أعمالهم بهذه الطريقة، متخلّين عن دور العرض؟ تقول البطنيجي: "منذ أن بدأت رحلتي بالتصوير، لم يكن هنالك أي أماكن متاحة لأعرض أعمالي أو أشاركها مع الناس على الأرض؛ فكانت مواقع التواصل هي فقط المساحة المتوفرة بالنسبة لي، ولا أنكر أنها وفرت لي فرصاً جيدة للعمل الخارجي ولنشر بعض أفكاري وتساؤلاتي في ما يخص كل ما يدور حولي ومعي كفتاة تجوب طرقات المدينة المحاصرة، لتبحث في جنباتها عن لون جميل للحياة يمكن التقاطه، وحبسه في الذاكرة".

توضح: "دور العرض والغاليريات غير موجودة للأسف في غزة. هنالك عدد بسيط يعد على أصابع اليد الواحدة، وهي مؤسسات فنية بالمناسبة، تُمول نفسها من خلال بعض المشاريع الفنية الخارجية التي تخضع لسياسات مقيدة بشروط التمويل. أشعر بأن هذا الأمر ليس مشجعاً أو مجدياً بالنسبة لي".

تتابع: "جاء أبي يوم المعرض إلى الحاكورة حاملاً أكياس الضيافة والحلويات والقهوة، التي يأتي بها حينما تكون هنالك مناسبات في الأفراح والأعياد، بينما جلس الأصدقاء تحت أشجار الزيتون، عزفوا ودندنوا على العود... هذا تماماً ما أبحث عنه في الفن، أن يأتي الوقت وأستطيع مشاركة الناس ما أراه داخل مساحتي المليئة بهذا الحب والجمال".

عودة إلى صور البطنيجي وعناصرها، خصوصاً حضور الوقت فيها، نستشعر أحياناً أنّنا أمام مشاهد ضبابية، كأنّ هناك أمراً ما على وشك الحدوث خلف هذه الغشاوة، حتى وإن كانت الصورة واضحةً، لكن يبقى هناك شيء غامض في الصور، كتلك التي يقف فيها رجل وحصانه على الشاطئ.

تنظر البطنيجي إلى غزة كما لو أنّها مرآة تهشّمت بفعل هزة كبيرة سببها مرور طائرة حربية. حين تمرّ هذه الطائرة، وفق البطنيجي، يبدأ الناس بعدها بالخروج بحذر "ووجوهم شاحبة. لديهم حلم بأن يشربوا قهوة النجاة من التصعيد المتكرر فوق رؤوسهم. يخرجون لينظروا كيف صار لون الحياة بعدما قطعت (الفيشة) عنهم وتناستهم الحياة لفترة".

 

الصورة
رهاف 2

 

تتابع: "هكذا، تأتي اللحظة التي تقرر فيها عدسة الكاميرا أن تنغلق لحفظ المشهد بكل تفاصيله. تأتي النتيجة كشيء محايد إلى حد ما. ليس لوناً صاخباً أو ضوءاً ساطعاً، أو مكاناً نظيفاً وهادئاً، وإنما هذه الرغبة الحذرة في التمرد على كل ذلك، والانطلاق نحو مجهول آخر". تضيف: "الغموض مرشوش فوق كل زوايا لوحة المستقبل".

وعن صورة الرجل والحصان تحديداً، تقول: "أتساءل فيها: ماذا كان الحوار بينهما؟ لماذا يمتثل الحصان هذا الامتثال لصديقه في منتصف البحر؟ وأيضاً حركة اليدين المعقودة خلف ظهر الرجل، تأخذني للتساؤل عن الوقت الذي جمعهما كرفيقين".

في هذا السياق، نسأل البطنيجي عن حضور الحيوانات كعنصر أساسي في معظم لقطاتها. تقول: "جميعنا يعرف سنوات الحصار الكبيرة التي لا يزال يمر بها قطاع غزة، هذه السنوات خلق فيها السكان بدائل وخيارات متعددة، البعض منهم جدد فيها واستغنى عن القديم، ومعظمهم تمسك بما هو لديه ليُكمل الرحلة من دون الحاجة للتغيير، لذلك ظلت الحيوانات في غزة، كالأحصنة والجمال والحمير، تُستعمل كوسائل نقل إلى يومنا هذا، فتمشي في منتصف الطريق لتجد سيارة (جيب) من طراز حديث، وعربة حمار، وفي الخلف بدو يمتطون الجمال... هذا المشهد بكل ما يحمله من مفارقات، يمثّل تفسيراً بسيطاً لما حدث لنا كفلسطينيين داخل قطاع غزة المعزول عن الدنيا".

أما عن حضور الأسماك، فتقول: "الأسماك تمثّل حالة البحر المتجددة فينا، والثروة الغنية التي نحتاجها دوماً، لنستمر في التغلب على كل هذا ونقول إن البحر هو الوحيد الذي ما زال يُعطينا خيراته من دون مقابل، بينما يُغلق العالم أبوابه في وجوهنا. هذه الصورة العظيمة للبحر في المشهد الغزي ككل جعلتني أصنع سلسلة صور، تحمل كل أنواع الأسماك التي نشترك بها مع منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط. في يسار الصورة نرى السمكة، وعلى يمينها صيادها". 

تبتعد البطنيجي في لقطاتها عن الصورة النمطية لغزة، منطقة بائسة أنهكتها الحرب. نقرأ فيها تفاصيل كثيرة من الحياة اليومية الطبيعية هناك، بنسائها وفتياتها، وأطفالها كذلك، بعيداً عن تصويرها فقط على أنها سجن كبير. تقول: "أحب فكرة السفر. أحلُم بها كثيراً. أرى في مناماتي الطويلة أني أسافر وأبتعد وأشاهد أناساً وشوارع وبيوتاً بديعة... تأخذني هذه المنامات والأفكار إلى التجول داخل نفسي وداخل المدينة التي لا تزال تحمل الكثير من أسرار الجمال لنتحدث عنها؛ فأبدأ في تفسير الحلم عبر خروجي مرتبكة وخائفة أحياناً من ردة فعل الناس تجاه الكاميرا، المعتادة أن تأخذ معاناتهم كمادة صحافية عالمية لا ترى منهم سوى الحزن والشحوب".

 

الصورة
معرض رهاف

 

تضيف: "نعم، هنالك حزن وخوف واغتراب في المشهد، ولكن بالمقابل هنالك فرح وزفة عريس بمنتصف الشارع، ونشوة عارمة بقدوم مولود جديد! وألوان فواكه الصيف مسكوبة على الرصيف وضحكات البائعين وتغامزهم في ما بينهم، وعازف شبابة على الكورنيش وبائع بلالين وغزل البنات وحلاوة العنبر والبطاطا الحلوة على الشاطئ... هذه التفاصيل تُلهمني بأن ألتقط المرآة المكبرة، لأعكس انحيازي البسيط للجمال".

كيف يتلقّى المختصّون هذه الصور؟ تقول البطنيجي: "هذه المرآة المكبرة تُكلفني كثيراً كمصورة شارع، ليس بشأن الحالة التي تعيشها المدينة، وإنما بشأن الفكرة التي أريدها أن تصل للعالم، فبعض السلاسل التي صنعتها وأرسلتها لوكالات عالمية قوبلت بالرفض. أذكر أنني صنعت سلسلة صور تحكي عن أول عارضة أزياء في غزة، وقد أخذت صوراً لها في الشارع وعلى البحر، وفي المقهى. ولكن حينما أرسلت الصور، كان الرد: شكراً، فكرة جيدة، ولكن التركيز هذه الفترة على أحداث أكبر". تتساءل البطنيجي في هذا السياق: "هل المشاهد الدموية هي الجواب المُرضي للعالم عن غزة؟". 

المساهمون