فواز طرابلسي يتذكّر اغتيال رؤساء في اليمن (3-4)

فواز طرابلسي يتذكّر اغتيال رؤساء في اليمن (3-4)

19 نوفمبر 2015
إبراهيم الحمدي اغتيل في صنعاء في 11 أكتوبر 1977
+ الخط -

بعد مقتلة يناير/كانون ثاني 1986، ظننتُ أن الرسالة إحترقت من ضمن ما احترق في بيت عبد الفتاح ومكتبته، بعد أن قصفته القطعُ البحرية الموالية لعلي ناصر في أحداث يناير، إلى أن أبلغني فضل محسن، صهر عبد الفتاح، وقيادي في الحزب الاشتراكي اليمني، أنه وجد الرسالة في حقيبة سامسونايت، سلمتْ من الحريق في المنزل. طلبت من فضل أن يرسل لي الرسالة. وعندما فاتحته بالأمر في أول لقاء لنا في اليمن، بعد سنوات، إستغرب أنني لم أتسلمها، وكان قد أرسلها إليّ بواسطة السفير اليمني في دمشق. لم أعد أذكر سبب إرسالها إلى دمشق، لكن العجيب أن فضل أرسل الرسالة الأصلية إلى السفارة في دمشق، وأنا قد صرت في باريس أواصل دراستي، ولم يأبه باستنساخ ولو نسخة منها على سبيل الاحتياط. طمأنني فضل على فحوى الرسالة، كما رويتها هنا. ولما أبلغتُ وفاء ابنة عبد الفتاح بأمر الرسالة، قالت: "لا بد أنها كانت في حقيبة السامسونايت تبع أبي، وهي الحقيبة الوحيدة التي سلمت من الحريق، وتوليت بنفسي إخراجها من المنزل". طلبت من وفاء، وكررتُ الطلب لاحقاً على أخيها عَمْد، وآخرين، آملا بالاستحصال على رسالة خطية من فضل، يؤكد فيها فحوى ما ورد في تلك الرسالة. وما زلت أنتظر. أستطيع أن أستنجد بالصديق أنيس حسن يحيى، أيضاً، لأن ما سمعه مني في تلك الجلسة التي قرأ لنا فيها رسالة عبد الفتاح عن الخلاف مع سالمين هو حرفياً تقريباً ما قلته في رسالتي التي أرسلتها بالصفة الشخصية إلى عبد الفتاح. 

اغتيال الحمدي في صنعاء
اغتيل العقيد إبراهيم الحمدي، رئيس الجمهورية العربية اليمنية، في صنعاء يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، وكان قد تسلّم الحكم في انقلاب عسكري في 13 يونيو/ حزيران 1974، ضد رئيس الجمهورية القاضي عبد الرحمن الإرياني. سمّيت حركة الحمدي "حركة تصحيحية" لمسار الجمهورية، بعد الردة المحافظة التي أعقبت انسحاب الجيش المصري بعيد حرب يونيو 1967. جيء بالإرياني إلى الحكم في انقلاب 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1967 نفسه ضد المشير عبدالله السلال، وشارك فيه ضباط بعثيون، وتولّى محسن العيني رئاسة الوزراة، واللواء حسين العمري قيادة الجيش. وقد عقد اتفاق سعودي ـ يمني في يونيو 1970، أوقف القتال بين الجمهوريين والملكيين، وقضى بدخول وزراء ملكيين الوزارة، وتأسيس مجلس شورى، ترأسه شيخ مشايخ قبيلة حاشد، عبدالله بن حسين الأحمر. وقد شهدت تلك الفترة نزاعات حدودية بين اليمنيين، خصوصاً عندما تسلّم الشيخ الحجري الموالي للسعودية رئاسة الوزراء. ونشطت العمليات العسكرية من مقاتلي الحزب الديمقراطي الثوري والمقاومين الثوريين، المدعومين من الجنوب، ضد المشايخ والملكيين العائدين.
وحّد الحمدي القوات المسلّحة، وحاول بناء دولة مدنية حديثة، وإضعاف مراكز القوى القبلية، وانتزاع الدولة من هيمنة مشايخ القبائل، وخصوصا الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر. وفي خطاب شهير له، أعلن أن مشايخ القبائل يحكمون، ولا يتحمّلون المسؤولية عن أفعالهم. والأهم أن الحمدي انتهج سياسة خارجية مستقلة عن العربية السعودية. تقرّب من اليمن الديمقراطي، وأوقف الحملات الدعاوية ضدها، واستقبل سالمين في صنعاء، وعقد معه اتفاقية وحدوية في قعطبة في فبراير/ شباط 1977، تضمنت تعزيز التعاون الاقتصادي، وتنشيط التبادل التجاري، وتوحيد المناهج الدراسية. ولعلها المحاولة الوحدوية الوحيدة التي نظر إليها على أن الوحدة عملية متدرّجة، وذات نمط اتحادي. اغتيل إبراهيم الحمدي عشية زيارته عدن للمشاركة في احتفالات ذكرى ثورة 14 أكتوبر، وكان متوقعاً أن يعلن فيها عن مزيد من الخطوات التوحيدية بين البلدين.

ما معلوماتك عن اغتيال الحمدي؟ وما الأطراف التي شاركت في اغتياله؟
لا معلومات خاصة لديّ. حينها، اتجهت أصابع الاتهام في اغتيال الحمدي إلى نائبه، المقدّم أحمد حسين الغشمي، وإلى تحريض الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، ومن ورائهما العربية السعودية التي أزعجتها نزعة الحمدي الاستقلالية، وإقصاؤه المشائخ الموالين لها، وتوقيعه اتفاقية أمن البحر الأحمر مع إثيوبيا، وخصوصا تقاربه مع الجنوب، وصولا إلى إمكان تحقيق الوحدة بين إقليمي اليمن. وجرى تداول اسم الضابط علي عبد الله صالح، الحاكم العسكري لتعز، بما هو مشارك في جريمة الاغتيال، إن لم يكن منفذّها المباشر. بقصد التمويه والتعريض الأخلاقي، ألقي قرب جثتي الحمدي وشقيقه الذي اغتيل معه، بجثتَي فتاتين فرنسيتين كانتا في زيارة لليمن. وقد نشرت الصحافة الفرنسية هذه المعلومات، ونبذة عن حياة الفتاتين ونظمت أسرتاهما حملة استمرّت سنوات طويلة تطالبان فيها السلطات اليمنية بالتحقيق في ظروف مقتل ابنتيهما، من دون طائل.
خلف الحمدي نائُبه في رئاسة الجمهورية، المقدم أحمد حسن الغشمي، الذي حكم أقل من سنة قبل اغتياله يوم 24 يونيو 1978، في مكتبه بانفجار حقيبة ملغّمة، وهو يتسلّم رسالة حملها مبعوث من الرئيس الجنوبي، سالم ربيع علي.

عبد الفتاح إسماعيل وفواز طرابلسي
سادت روايتان للحادثة. واحدة تقول بمسؤولية سالمين، وأخرى تقول إن سالمين أرسل مبعوثاً له، وإن خصومه بدّلوا حقيبة المبعوث العادية بحقيبة ملغّمة. ما أعرفه أن اغتيال الغشمي اتخذ انتقاماً لاغتيال الحمدي. والقرار اتخذه سالمين وصالح مصلح. ولست أستبعد أن يكون جارالله عمر، مثلاً، قد شارك في القرار، وهو المسؤول الأول عن الملفّ الشمالي. أعرف أن صالح مصلح من الحنكة والدراية بحيث لن يقدم على عمل بهذه الضخامة، من دون استشارة سالمين ومشاركته. وإنه يصعب أن ينفّذ مثل هذا العمل من دون تقدير عواقبه مع المسؤول الأول عن الوضع في الشمال. وكان منفّذ العملية أحد مرافقي صالح مصلح من الفدائيين، وهو من أقاربه في حدود معرفتي، واسمه مهدي أحمد صالح، ويكنّى "تفاريش" (رفيق بالروسية). وأعرف من صالح ومن جارالله أن مهدي تطوّع للعملية الانتحارية، وهو بكامل وعيه بأن الحقيبة التي يحملها ملغّمة، وأن المقصود أن تنفجر به وبالغشمي معاً.
نشبت أزمة عربية ودولية حادة، جرّاء اغتيال رئيس دولة يمنية رئيس دولة يمنية أخرى. قررتْ 15 دولة عربية قطع علاقاتها بحكومة عدن، ودهم خطرُ الحرب بين اليمنيين. درءاً للمضاعفات الدولية والعربية، تقررت التضحية بسالمين، وقد كان اغتيال الغشمي المناسبة المثالية للتخلّص منه، في معمعان الصراعات على توجهات التجربة، ومسألة هوية الحزب وانحيازاته الدولية. فجرى تحميله المسؤولية عن الاغتيال، مع أن صالح مصلح اعترف بمسؤوليته عن العملية، وأبدى على الفور استعداده للاستقالة، وتحمّل أية عقوبات قد تترتب على مسؤوليته عن عملية الاغتيال. بديلا من ذلك، طُرد سالمين من المكتب السياسي في 24 يونيو 1978. وبعد يومين، قرر المكتب السياسي طرده من الحزب. اعتصم سالمين في القصر الجمهوري. وعلى أثر تبادل لإطلاق النار بين القوات الموالية له والقوات المعارضة، اقتحمت الأخيرة القصر الجمهوري (القصر المدوّر، كما يسمّى في عدن)، وقتلت سالمين ومساعديه، جاعم صالح، قائد اتحاد الفلاحين، وعلي الأعور، مدير مكتب الرئيس.
الرواية التي أرويها هنا سمعت الشطر الأول منها من محمد سعيد عبدالله الذي أبلغني أن قذائف من القصر الجمهوري تساقطت على مبنى اللجنة المركزية التي كانت مجتمعةً للبحث في مصير سالمين. وكان وفد من اللجنة المركزية يفاوض الرئيس الذي قيل إنه أبدى استعداده للمغادرة إلى إثيوبيا. ولكن، مع سقوط القذائف، انقطعت المفاوضات، وتقرر اقتحام القصر الجمهوري، حيث قتل سالمين وعلي الأعور وجاعم صالح في الاشتباكات، والعهدة هنا على الراوي.

فواز طرابلسي في مقيل يمني
الرواية الثانية هي التي رواها لي عبد الفتاح إسماعيل في زيارتي اليمن بعيد سقوط سالمين، وتتعلق بنهاية سالمين. هذا ما سجّلته حرفيا في ملاحظاتي عن لقاء عبد الفتاح خلال زيارتي لعدن، بعيد إعلان تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني بين 18 و22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1978:
"عبد الفتاح، كأنه يردّ على رسالتي له حول محاولة استيعاب سالمين، وقد بات في الأقلية الحزبية، أعرب عن مفاجأته أن سالمين وصل إلى حد القيام بالانقلاب العسكري. وأسرّ لنا بأن آخر ما نطق به سالمين المطوّق هو سؤال: هل إن الأمين العام لا يزال على قيد الحياة؟ فردّوا عليه بالرصاص".
وأردف فتّاح "خضنا معركة الشرعية ضد سالمين إلى نهايتها. لكننا لم نقع في الغلطة التي وقع فيها صلاح جديد ونور الدين الأتاسي في سورية، لقد رفدنا معركة الشرعية بالاستعداد العسكري!".

السوفييت ضد سالمين

سأكتشف لاحقاً ملابسات موقف السوفييت من مسألة إقصاء سالمين.
وهذه الآن رواية محمود عشيش الذي جاءنا إلى بيروت في 3 يوليو/ تموز 1978، يروي تفاصيل النزاع مع سالمين. وهذا ما دوّنته عنها في محضر الاجتماع في التاريخ نفسه:
"استقدم سالمين لواء باب المندب، وفيه قادة 3 كتائب موالية له، وكانت له مجموعات مسلحة في منازل بعدن. عند بدء الاشتباكات، حاول أحد الضباط الموالين له السيطرة على غرفة عمليات وزارة الدفاع، قتل ثلاثة ضباط وهرب. تمرّد في أبين، زنجبار. استيلاء جماعة سالمين على البلدة.
"الحصيلة التحاق 20-25 ضابطا للشمال. 10-20% من القوات المسلحة مع سالمين. اضطرار أعضاء ل. م. إلى تولي مسؤوليات عسكرية لسد الفراغ الناجم عن الفرار إلى الشمال. عدد المعتقلين 120. الضحايا 60 من طرف سالمين، 40 من طرف الحزب، وبين 100 و150 جريحاً".

تقول رواية إن اغتيال سالمين كان مقرراً قبل مقتل الغشمي، وإنه لم يعطِ صالح مصلح الضوء الأخضر، وأنهم حينما اقتحموا القصر لم يطلق النار عليهم، ولم يقاومهم، بل قدم استقالته؟ باختصار، ذهب سالمين ضحية مؤامرة، للتخلص من مركز قوة كان يمثله؟

حين يصل الخلاف إلى هذه الدرجة من التباعد والحدة التي بلغها النزاع بين عبد الفتاح وسالمين، لا يستبعد أن يكون الطرفان مستعديَن للقتل والقتال. فلا يعود التوقيت مهمّاً، ولا حتى مَن هو الطرف الذي أطلق الرصاصة الأولى. ما رواه عبد الفتاح أعلاه يؤكد أن الطرفين كانا يتأهبان لمعركةٍ، حتى قبل اغتيال الغشمي. من جهته، لم يكن سالمين مستكيناً هو أيضا. كما هو واضح مما كتبته حينها أعلاه. طبعا كل طرف يرمي المسؤولية على الطرف الآخر. الرواية الرسمية للطرف الرابح هي أن سالمين كان مجهزاً لانقلاب عسكري، وأن الطرف الثاني رد على الانقلاب.