فنانو ما بعد الحرب

فنانو ما بعد الحرب

05 مارس 2017
(Getty)
+ الخط -
كل ما أعرفه أن الثورات لا تنتهي، بل تتجدد، وحدها الحروب التي تنتهي، وأسأل نفسي دائماً وبشك يقود إلى الجنون: هل أنا نفسي الذي أشاهدني في مقطع الفيديو هذا؟ أم أن كل شيء أراه من صنع خيالي؟ هل كل ما عشته حقيقي؟ أم أنه داخل رأسي فقط؟ ما هذا؟

الحرب.. ها أنت تحملها معك، تطعمها من كل ما فيك، سهرك الدائم، قلقك، حساسيتك المفرطة، حزنك المتطرف، سوداويتك المطلقة، تجاهلك الكاذب، محاولة هروبك الفاشلة، كحولك، مخدراتك، محاولات الحياة بعد أن مت ملاين المرات!

ها أنت تدخل بها.. يضجرك الهدوء الذي يعيشه العالم من حولك، يقتلك مللًا من يحكي لك عن كلبه وعن نيته في تزويجه من كلبة، الموسيقى التي اعتدت سماعها وألفت عليها إيقاعك وحركاتك، هي مختلفة تمامًا، حتى حوارك أخذ الشكل مسرحي.

ها أنت تتكلم، تقول حوارك، تنطلق القذيفة، تصمت وتقول للآخر: لحظة بس لتسقط القذيفة.. تسقط، تكمل حوارك بشكل طبيعي، حتى أحيانًا وإن راقبت نفسك، تراك تتنوع في الأداء، الرصاصات تأخذ إيقاعها أيضًا، لا تهمل أي شيء على الخشبة، كل شيء موجود لأجلك، ها قد بدأنا البروفة.

عرفت الآن سر الصمت الطويل أو إيقاع الكلام المضطرب فيك (فنان ما بعد الحرب)، أنفاسك الضيقة، إيقاعك السريع في أحد فصول الحكاية التي ترويها، وكأنك تقول: أريد إخبارك بشيء قبل أن أموت، فالقذيفة على الطريق.

المقطوعة التي كنت تعزفها على بزقك القديم مختلفة عن الآن، ثمة شيء ناقص..
 إمممم، عرفت سر جلوسك بهدوء مريع، تحمل البزق الخاص بك، تضعه على حضنك كما تضع قطة دلالها عليك، الآن عرفت يا صديقي، عرفت أن كل الانفجارات والصواريخ ووشوشات الرصاص ما هي إلا تعبير حقيقي عن غضبك، وما الصوت الذي يصدر من البزق عن طريق أصابعك ما هو إلا الصوت الوحيد، الباقي فيك، هذا غضب فني.

صباح الخير يا قطتي، الأدرنالين، إدمان العائدين من الحرب، وإدمان من تذوقوا حلاوة اللعب مع الموت، هيا لنلعب قليلًا، ماذا لو كان هذا المدمن فنانًا، مخرجًا، ممثلًا، موسيقيًا، كاتبًا؟

سترى العيون مستيقظة كثعلب جائع، حاسة الشم تعمل بضعف عملها، لقنص الدم الممتزج في الهواء، سيالتك العصبية تعمل بقوة 1000 فولت توتر عالي، محكمة التمديد إلى جسدك اللعين، يداك على الكاميرا، مستعد أنت دائما لتسجيل كل شيء في عينيك قبل الكاميرا، أو على الكاميرا قبل عينيك، لتثبت لنفسك في لحظة شك، أنك لست شخصية في فيلم، وأن ما تعيشه ليس كابوسًا.

الذاكرة جاهزة، لقد "شيكت" عليها، سألت نفسي ذات مرة ما فائدة كل ما أفعله؟ ثم أكملت التسجيل، أكملت الابتلاع، تنفس، حاول التركيز، أجل مشاعرك التي تطرق باب عينيك حتى إشعار آخر، ركز الآن، أنت بحاجة لنقل كل شيء، أجل حزنك، هيا سجل، تنوع باللقطات، بدل العدسة، بدلها، حاول جعل الإضاءة أقوى.

يا إلهي.. أنا شو عم ساوي.. عم خلي البشاعة حلوة؟ يرد الحكيم الذي في داخلك والذي يعرف جواب أي سؤال وبكل اللغات: لا يا حبيبي لا، أنت بس عم تفرجينا الحقيقة الحقيقية.

ودائما ما نكون نحن أقرب إلى الصوت الثاني، ونادرًا ما نسمع الصوت الأول أو نحول تحليله. أضحك.. كل شيء مضحك، الأسئلة اللعينة التي تطرق جمجمتك، حوارك مع نفسك ومع حكيمك، أنت فنان، حاول قلب شكل البكاء إلى ضحك، أنت قادر وخصوصًا إذا كنت ممثلًا، أنت مبتسم دائمًا، حتى في المقبرة وعلى قبر صديقك الوحيد.. اقلب الآية، حاول الاستمرار، ها هي القذيفة تأتيك مبتسمة أيضًا، أيكما أقوى في الابتسام.. ها هي تقترب.

طلعت يا شباب، واحد، اثنان، ثلاثة.. ها أنا الآن أعرف معنى الكتب التي قرأتها، معنى كل شيء، ها أنا أتلمس المعنى، الجمال الخير العدالة الحب والفن. ها نحن الآن داخل أحد الكتب، لا إننا لسنا داخل كتاب، إننا داخل جحيم صغير، كل ما قرأته إلى الجحيم، إلى أقرب مزبلة، يوم واحد في الحرب كفيل بأن يجعلك مستغنيًا عن كل الكتب التي قرأتها في حياتك!

ها أنا أشعر بكل شيء، ها أنا اكتشف آلامًا جديدة، في الحقيقة لست بحاجة إلى المزيد منها، لكن يا صاحبي هذا ثمن المعرفة والوعي، وبحسب العقيدة البوذية إن الوعي لا يأتيك إلا عن طريق "الدوكا" أي المعاناة، ها أنت تختبر كل شيء، كم أنت محظوظ، أو كم أنت تعيس، لا يهم، كلتا الكلمتين لا تحمل أي معنى في رقع الحرب.

ها أنا أمشي، أكمل الطريق، أحاول التقاط الرفاق قبل السقوط، لا أستطيع، مازالوا يتساقطون.. واحد، اثنان، ثلاثة، عشرة، عشرين، أنتقل إلى الأسماء، سيمون، عزوز، يمان، فـ آآآ.. اممم!

سألته: ما بك لماذا لا تكمل، من غير سيمون وعزوز وعطوان ويمان، وفؤاد؟ قال: لقد نسيت كم عدد الأشخاص الذي فقدتهم، ما عدت اتذكر.

أنت ها هنا الآن، الحصار وشيك على أن ينهش حتى صوتك، لا كهرباء ولا ماء ولا غذاء، ما العمل، يجب المقاومة، الاستمرار، هيا، صغر معدتك، طور آلية عينيك على أن تلتقط ككاميرا بذاكرة مفتوحة، انظر إلى الشارع المدمر، ارصد التفاصيل، اسرق موجات الصوت التي تأتيك من تمديدات المياه المكسورة بشظية، انتبه من الغرق في التأمل، ارصد الألوان الجديدة.. هيا، ها أنت تصور أروع لحظة في تاريخ الفوتوغراف العالمي.

ها أنت تكمل الطريق، لم تعد تحتمل، روحك أصبحت مليئة بلغة القنابل والرصاص وأنواع الأسلحة، ولكن ماذا عن المفخخات؟ إنها وجهتي، يجب أن يكون العمل الفني كمفخخة في قلب العدو.. ها؟ أنا أسجل كل شيء، وفي الطريق الواصل بين الجحيم الذي كنت فيه، والمدينة الأخرى، هناك جحيم بانتظارك، الذاكرة.

ها أنت الآن، المخرج والممثل والكاتب والموسيقي جميعكم.. جميعكم، ممزوجون في الدم والجسد، انظر إلى نفسك، انتبه، أنت ممتلئ بالجثث والمجازر والموسيقى، والطعام منتهي الصلاحية، أنت الآن في مدينة هادئة، وغضبك وحزنك يثور كمفخخة لعينة في قلب هذا العالم.. انتبه، أنت تشبه العمل الفني الذي تحدثت عنه قبل قليل، أنت العمل وكل ما مررت فيه فني.. فني جدًا!

هيا تابع، ابحث عن الحياة كأفعى جائعة، أنت وحيد وحزين وممتلئ بحقيقية العالم القذرة، وتذكر جيدًا لا أحد يعنيه ما مررت به، ولا الرصاصات ولا القذائف ولا شيء، أنت ربما في نظر الكثير من البراغماتيين، مادة درامية، مليئة بالمال الذي سيجنى من حكاياتك وذاكرتك ونظرتك للحياة وللموت.

تحصن بكل تلك الرصاصات التي عبرتك صدفة، أعدها إلى جعبتك، أطلقها في وجه كل من يحبوك أو يكرهوك، أطلقها في وجه الإنسان القبيح، ولا تنس حصة المبتسم أيضًا، الذي يسعى بخبث، أنت تعرفه أن يغتال ذاكرتك أو معاناتك ليحولها إلى مقالة أو فيلم أو عمل مسرحي، تحصن كمقاتل حقيقي في أرض المعركة، دافع بشراسة عنك، ستدافع في وقتها عن كل من ماتوا فيك، هذا خيارك الوحيد إن كنت تريد الاستمرار والتحرر في عالم العبيد هذا.

وإن سألتني يا صاحبي ماذا كنت ستصبح لو لم تكن فنانًا؟
سأقول لك وأنا أبتسم: قاتل شره.

المساهمون